لم تعُد الرياضة فوق السياسة
هيفاء علي
بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تهدف الألعاب الأولمبية إلى تقديم فرنسا في أفضل حالاتها للعالم لأغراض سياسية وتجارية، والألعاب نفسها ليست سوى وسيلة لإرضاء غروره وطموحاته.
يريد ماكرون فرض هدنة في أوكرانيا وغزة طوال فترة الألعاب الأولمبية التي ستُقام في باريس هذا الصيف، حيث صرّح بأن اقتراحه يتماشى مع المفهوم القديم للهدنة الأولمبية إذ يتم “تعليق الأعمال العدائية تاريخياً لتسليط الضوء على المثل العليا للأخوة الإنسانية والتطلعات السلمية”، بمعنى أن الرياضة فوق السياسة.
روسيا ردّت بأنها لا تعارض الفكرة من حيث المبدأ، لكنها أكدت أن مفهوم ماكرون للسلام الأولمبي يفتقر إلى إجراءات ملموسة لضمان صدق المبادرة. بمعنى آخر، لا يتمتع ماكرون بأي صدقية ليقترح اتفاقاً بهذه الأهمية، واقتراحه الغامض مليء بالتناقضات. فقبل بضعة أسابيع فقط، طرح ماكرون فكرة إرسال قوات من حلف شمال الأطلسي للقتال في أوكرانيا ضد روسيا، بينما تستمرّ باريس وعواصم الناتو الأخرى في الضغط بشدة من أجل إرسال المزيد من الأسلحة إلى نظام النازيين الجدد في كييف.
وقد دخلت حرب الناتو بالوكالة ضد روسيا عامها الثالث، ويبدو على نحو متزايد أنها قضية خاسرة بالنسبة لواشنطن وحلفائها الغربيين، ولا يوجد أي زعيم غربي مستعدّ للتخلي عن هذه الهزيمة الدموية “على أمل” هزيمة روسيا استراتيجياً على أقل تقدير.
إذن، كيف يمكن أخذ مخاوف ماكرون المزعومة بشأن الهدنة الأولمبية على محمل الجد؟ أمّا بالنسبة لغزة، فإن فرنسا وشركاءها في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي متواطئون في رعاية الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها سكان غزة على مدى المئتي يوم الماضية. علاوة على ذلك، فإن فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا تدعم فعلياً العدوان الإسرائيلي المتكرّر على إيران وسورية ولبنان والعراق واليمن. هذا الثلاثي الغربي يعزّز القدرات الجوية لـ “إسرائيل”، بينما يدين إيران ويفرض عقوباتٍ اقتصادية عليها. إن مشاركته الضمنية تعطي الضوء الأخضر لمزيد من العداء الإسرائيلي وانتهاك القوانين الدولية، ما يؤدّي إلى تآكل نسيج الأمن العالمي برمّته.
ونظراً للتواطؤ المروّع للقوى الغربية في تأجيج هذه الصراعات المتفجّرة، فإن قمة الازدواجية من جانب ماكرون أن يقدّم اقتراحه المتباهي بالهدنة خلال الألعاب الصيفية التي تقام في باريس في الفترة من 26 تموز إلى 11 آب.
وحسب مراقبين، فإن اهتمام ماكرون الحقيقي هو إظهار فرنسا بكل عظمتها المفترضة في عرض عالمي مدفوع بنرجسيته وطموحه المفرط وأوهام عظمة رجل الدولة، والرئيس الذي يحاول يائساً استعادة هيبة فرنسا على الساحة الدولية، وهذا هو جنون العظمة نفسه الذي يحفز دعواته الأخيرة إلى مشاركة أكبر لحلف شمال الأطلسي في الحرب بالوكالة في أوكرانيا.
وفيما يخص الألعاب الأولمبية، تفيد المعلومات الصادرة من قلب فرنسا بأنه يتم التخطيط لحفل افتتاح الألعاب الصيفية على طول نهر السين في شكل سباق القوارب الباهظ، وهذا الترتيب يخالف التقليد الحديث الذي يقضي بافتتاح الألعاب الأولمبية في الملعب الذي يستضيف أغلبية الأحداث الرياضية حيث يقع ملعب فرنسا خارج العاصمة الفرنسية، وبالتالي يريد ماكرون أن يتم بث حفل الافتتاح الكبير من وسط باريس، بهدف وحيد هو تسليط الضوء على العاصمة ومعالمها التاريخية الشهيرة. والحقيقة هي أن الألعاب الأولمبية وغيرها من الأحداث الرياضية الدولية قد اختطفت منذ فترة طويلة من السياسات الغربية لخدمة أهدافها الإمبريالية. عندما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي يشنون حروبهم غير القانونية في عدد لا يحصى من البلدان في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لم تكن هناك دعوة على الإطلاق إلى هدنة أولمبية، ولم يكن هناك أي شك على الإطلاق في منع الولايات المتحدة وحلفائها من المشاركة في الألعاب، على الرغم من وجود أسباب جدية لمثل هذه الدعوات.
بالمقابل، لعدة سنوات، تم منع الرياضيين الروس من المشاركة في الأحداث الرياضية بناءً على اتهامات ملفقة بتعاطي المخدرات وغيرها من سوء السلوك المزعوم، حيث كانت بطلة التزلج الفني على الجليد الروسية كاميلا فالييفا وغيرها من الرياضيين العالميين عرضة لإجراءات لا هوادة فيها من الغرب بهدف تدمير سمعتهم ومنع مشاركتهم في “السيرك الرياضي لحلف شمال الأطلسي”.
لقد بذلت القوى الغربية ووسائل إعلامها السامة كل ما في وسعها لضمان وضع السياسة فوق الرياضة، وباتت الأحداث الرياضية مجرد أداة للدعاية الغربية.
بالنتيجة، وحسب محللين فرنسيين، إذا كان السلام الدولي يحفّز ماكرون حقاً، فقد كان الأجدى به أن يدعو إلى إنهاء تسليح نظام النازيين الجدد في أوكرانيا والدعوة إلى المشاركة الدبلوماسية الجديرة بالثقة مع روسيا. إذا كان ماكرون يريد بصدق أن تعمل الألعاب الأولمبية على تعزيز السلام والإنسانية، فعليه أن يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة والاحترام الكامل للحقوق الوطنية المشروعة والإنسانية للشعب الفلسطيني.
لقد منعت اللجنة الأولمبية الدولية التي يسيطر عليها الغرب الرياضيين الروس من المشاركة في ألعاب باريس تحت علمهم الوطني، وحسب “اعترافهم” فإن 40 رياضياً روسياً يمكنهم المشاركة بشرط أن يفعلوا ذلك تحت “علم محايد”، وألا يظهروا أي علامات دعم لوطنهم روسيا. والسؤال هنا: لماذا لم تفرض مثل هذه القيود على الأميركيين والبريطانيين خلال حروبهم الإجرامية في العراق وأفغانستان؟ روسيا محظورة بينما يُسمح لـ “إسرائيل” بإرسال منتخب “وطني” بألوان “دولتها”، وهي ترتكب أفظع إبادة جماعية في التاريخ الحديث، ما يثير الاستغراب والسخرية في آن معاً.