مقاطعة أكاديمية عالمية غير مسبوقة
عناية ناصر
اشتدّت المقاطعة الأكاديمية العالمية لـ “إسرائيل” في ظل حرب الإبادة الجماعية على غزة، ما يعكس الموقف القوي الذي اتخذه المجتمع الأكاديمي الدولي ضدها. وقد نمت هذه الحركة على الرغم من الاتهامات الموجّهة ضدها بأنها معادية للسامية، وهو الاتهام الذي غالباً ما يستخدم للطعن في شرعية مناصرة وتأييد الفلسطينيين ورفض الجرائم التي يتعرّضون لها من آلة الحرب والإجرام “الإسرائيلية”. ولم تردع هذه الاتهامات الحركات الطلابية أو المقاطعة الأكاديمية، بل سلّطت الضوء على تعقيدات حرية التعبير والشكوك المحيطة بها في الدول الغربية التي روّجت ذات يوم للاستقلال الأكاديمي وحرية الرأي والتعبير.
وكانت المقاطعة الأكاديمية والثقافية قد حظيت بدعم العديد من المنظمات والهيئات الأكاديمية حول العالم، ما يعكس إجماعاً واسعاً ضد الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة. وكانت الحملة الأمريكية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ”إسرائيل” صريحة في الدعوة إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات من المؤسسات الأكاديمية “الإسرائيلية”، مؤكدة تأثير الجرائم “الإسرائيلية” في الأكاديميين وحريات الطلاب.
وعلى المستوى الدولي، كان الردّ قوياً بالمثل، حيث عدّ مؤيّدو المقاطعة مؤسسات الكيان “الإسرائيلي” الأكاديمية متواطئة في الفظائع والانتهاكات التي ترتكبها “إسرائيل، ما يجعلها أهدافاً مشروعة للمقاطعة. وقد جعل هذا النقاش الأكاديميين “الإسرائيليين” يواجهون بردّ موحّد ومنسّق على المستوى الدولي ومن داخل مؤسساتهم، كما ظهر في الجدل الدائر حول الرسالة التي وقعها الأكاديميون “الإسرائيليون” والتي اتّهمت “إسرائيل” بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.
استجاب المجتمع الثقافي والأكاديمي الإيطالي لدعوات المقاطعة، حيث قام أكثر من 1700 أكاديمي وباحث إيطالي بطرح هذه القضية على الوعي الوطني من خلال رسالة مفتوحة إلى وزارة الخارجية الإيطالية. وتدعو هذه الوثيقة إلى وقف التعاون الصناعي والعلمي والتكنولوجي مع” إسرائيل”. وقال الموقعون: إن هذا التعاون يمكن أن يدعم تطوير التقنيات ذات التطبيقات المدنية والعسكرية، بما في ذلك التقنيات البصرية للقتال. وذكروا أنه دون أحكام صريحة تحظر الاستخدام العسكري للأبحاث المشتركة، فإن هذه الاتفاقيات تخاطر بانتهاك القوانين الدولية والإنسانية من “إسرائيل”، وقد تستغل “إسرائيل” هذا التعاون الأكاديمي لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وتؤكد الرسالة الضرورة الأخلاقية والقانونية لذلك، وتحثّ على وقف هذا التعاون لإجبار “إسرائيل” على الالتزام بالمعايير الدولية، وخاصة تلك المنصوص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وتشير الرسالة أيضاً إلى أن استمرار مثل هذه الشراكات قد يورّط المؤسسات الأكاديمية الإيطالية في جرائم حرب محتملة، وهو اتهام خطير قيد المراجعة حالياً من المحكمة الجنائية الدولية.
علاوة على ذلك، يسلّط الأكاديميون الضوء على العواقب الوخيمة للعمليات العسكرية “الإسرائيلية” في غزة، وتحديداً التدمير المنهجي للبنية التحتية التعليمية، الذي يشكّل اعتداءً خطيراً على الحق في التعليم، حيث يرسم تدمير المدارس والجامعات، إلى جانب الخسائر في أرواح الطلاب والمعلمين، صورة مروّعة لتأثير الحرب “الإسرائيلية” في التعليم في غزة، الذي تم تدميره بشكل منهجي. وفي نداء ختامي للتضامن، دعا الموقعون إلى تعزيز العلاقات الأكاديمية مع المؤسسات الفلسطينية، واقترحوا أيضاً إلى جانب الاستجابات الدولية للأزمات الإنسانية الأخرى، إنشاء برامج تعليمية وتخصيص أموال لدعم المعلمين والطلاب الفلسطينيين.
وقد شهدت إجراءات الأكاديميين الإيطاليين نتائج ملموسة بالفعل، حيث كانت جامعة “تورينو” أول من قطع علاقاتها الأكاديمية رسمياً مع الكيان “الإسرائيلي”. ويمثل هذا القرار، الذي أقرّه المجلس الأكاديمي للجامعة، لحظة مهمة في حركة المقاطعة الأكاديمية الأوسع، لأن مقاطعة جامعة “تورينو”، وهي مؤسسة شهيرة ذات برامج قوية في العلوم الإنسانية والطب والهندسة، تشكّل سابقة يمكن أن تؤثر في جامعات أخرى في إيطاليا وحول العالم.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فلا خيار أمام الإدارة الأمريكية وداعمي جرائم “إسرائيل” سوى اتهام من يرفعون أصواتهم للمطالبة بوقف المجازر “الإسرائيلية” التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني بمعاداة السامية. ومرة أخرى خلقت هذه الاتهامات جواً من الشك فيما يتعلق بالحالة الحقيقية للحرية الأكاديمية داخل الجامعات الأمريكية، التي كان يُنظر إليها تقليدياً على أنها معاقل للآراء المتنوعة والنقاش النشط.
إن ردّ الفعل العنيف ضد هؤلاء الطلاب الذين يدعمون القضية الفلسطينية العادلة لا يشكّل تحدّياً لنزاهة هذه المؤسسات فحسب، بل يكشف أيضاً عن تواطؤ سياسي أوسع نطاقاً وإحجاماً عن معالجة الحقائق القاسية للجرائم الإسرائيلية في غزة. تسلّط مثل هذه الحوادث الضوء على اتجاه مثير للقلق في شكل ضغوط سياسية تطغى على القانون التعليمي المتمثل في تشجيع النقاش المفتوح حول القضايا الحساسة مثل جرائم الحرب الإسرائيلية، التي تدرسها محكمة العدل الدولية ولها أساس قانوني دولي ساري المفعول.
وتتجلى هذه الظاهرة بوضوح في موجة الاحتجاجات وحركات التضامن في مختلف الجامعات العالمية. ففي جامعة كولومبيا، أثار اعتقال أكثر من 100 طالب بسبب وجودهم السلمي في مخيم التضامن في غزة ردود فعل عالمية، حيث قام طلاب من مؤسسات مثل جامعة “ييل” وجامعة “نورث كارولينا” في تشابل هيل بإنشاء مخيمات مماثلة لدعم ذلك. وتشير هذه الاحتجاجات، التي تتراوح بين الإضرابات والمظاهرات، إلى احتجاج طلابي جماعي ضد الجرائم الإسرائيلية والتواطؤ الأمريكي فيها وقمع حرية التعبير.
اتخذت المقاطعة الأكاديمية العالمية شكلاً أكثر تنظيماً، حيث تم استبعاد “إسرائيل” من المؤتمرات والتعاون الأكاديمي وإلغاء محاضراتهم ورفض أوراقهم البحثية. إن هذه الإجراءات الأكاديمية ليست حوادث معزولة، بل هي جزء من حملة مستمرة لمدة سبعة أشهر عبر الجامعات الأوروبية والأمريكية، ما يعكس الاستياء العميق من الجرائم التي يرتكبها الكيان “الإسرائيلي” في غزة.
وفي الختام، المقاطعة الأكاديمية لـ”إسرائيل” هي انعكاس لصراعات مجتمعية وسياسية أوسع، وتتلخّص في صراع بين الدفاع عن حقوق الإنسان وتورّط الحكومات الغربية في دعم “إسرائيل” عسكرياً وأكاديمياً وسياسياً في جرائم الحرب التي ترتكبها في غزة. ويؤكد هذا السيناريو الدور المهم الذي تلعبه الأوساط الأكاديمية في التأثير في الخطاب السياسي وعكسه، والتحدّيات العميقة التي تواجهها المؤسسات الأكاديمية عند اتخاذ موقف واضح وصريح لدعم حرية التعبير والدعوة إلى وضع حدّ لانتهاكات حقوق الإنسان في غزة.