ثقافةصحيفة البعث

الشريحة الإلكترونية

قصة ـ أمين الساطي
مرعب حقاً فقدان الذاكرة، أخذت ذاكرتي مؤخراً تخونني باستمرار، فهي الآن تتدهور بسرعة فائقة.
استيقظت اليوم، وأنا لا أتذكر من أنا، وكيف وصلت إلى هنا، لما نظرت في المرآة وشاهدت انعكاس صورتي عليها، شعرت بالدهشة، وكأنها ليست في مكانها، أو ربما لم أكن أنا في مكاني. بعد فترة تذكرت من أنا، فأخذت سيارتي، وذهبت إلى مكان عملي في مديرية السجل العقاري بمدينة بيروت.
في أثناء عودتي، وأنا أقود سيارتي في شوارع متشابهة، اصطفَّت على جوانبها أبنية علب الكبريت، وتدلت من شرفاتها ملابس مغسولة تتسوّل أشعة الشمس.. اختلط عليَّ طريق بيتي، فركنت سيارتي بجانب الطريق، وأخذت هاتفي الجوال، واستعنت بخرائط غوغل، حتى تمكنت من الوصول إليه.
راجعت طبيباً مشهوراً متخصصاً في الأمراض العصبية، وشخَّص بأني مصاب بنوبة فقدان الذاكرة العابر، على الرغم من أني مازلت في السابعة والعشرين من عمري. أعطاني وصفة طبية تشتمل على مجموعة من الفيتامينات وحبوب مهدئة للأعصاب، ونصحني بالابتعاد عن القلق، وزيادة ساعات النوم، قائلاً إن هذه الأعراض من المفروض ألا تستمر لفترات طويلة، لكن إذا حدث واستمرت وازدادت وتيرتها، فإن الحالة ستتحول إلى مرض ألزهايمر.
خرجت من العيادة وأنا بحالة ذهول، فلأول مرة في حياتي أسمع بهذا المرض، وبدأت ألعن نفسي وألعن الساعة التي ولدت فيها، وأنا أقود سيارتي في حالة من الضياع. اجتزت في طريقي شارع الحمرا الذي اكتظت أرصفته بالمحال التجارية الجديدة، فقد الشارع بريقه بعد أن هجرته المسارح ودور السينما، وتحول إلى منصة للبائعين الجوالين. لقد أصبح مكسور الخاطر مثلي، ومع هذا فما زالت دروبه تقوده إلى البحر، كما تقودني أفكاري إلى الجنون، فجأة شعرت بأنني اصطدمت بجسم صغير، لكني تابعت طريقي، وأنا أعيش النهايات المظلمة التي تنتظرني.
بعد يومين اتصل بي رقيب من مخفر شارع الحمرا، وطلب مني الحضور في اليوم التالي بالساعة العاشرة صباحاً، من دون أن يشرح لي سبب استدعائي. فعلاً ذهبت إلى المخفر، حيث كانت هناك سيدة سمينة وقصيرة وبشعة في انتظاري، لما شاهدتني صرخت مشيرة بأصبعها، بأني السائق الذي دهس كلبها البيشوت الصغير الأبيض، عندما كان يمشي بجانبها على الإسفلت في شارع الحمرا، فنظرت إليها وتذكرت الحادثة، وتمنيت في لحظتها لو أني دهستها مع كلبها، وأرحت البشرية منها. فهمت من الرقيب بأنها أخذت رقم سيارتي بعد الحادثة. استثارتني بصوتها الخشن العالي، فشعرت بخفقان قلبي بشدة، واحمرّ وجهي، وبدأت ترتعش أصابعي وتهتز يدي. حملقت في عينيها العسليتين الصغيرتين محاولاً أن أكتشف شخصيتها الحقيقية المخبأة خلفهما. فأشاحت ببصرها نحو الأعلى، ما يدل على أنها شعرت بالخوف مني. بعدها تدخل الرقيب ونصحها بأن تسحب الشكوى، فهي المسؤولة عن موت كلبها، لأنها كانت تسير على شارع الإسفلت وليس فوق الرصيف، بالنهاية أسقطت شكواها وغادرنا المخفر.
الأمور تزداد سوءاً في كل يوم. كان لا بدّ من مراجعة طبيبي. أخبرني بأنه لا يوجد حالياً دواء لمرضي، وأن حالتي تتدهور بسرعة، لكن هناك مركز أبحاث في الجامعة التي يحاضر فيها. يقوم بتجارب على زرع شرائح إلكترونية صغيرة متطورة في الدماغ، تقنية طبية جديدة تساعد في علاج الأمراض المستعصية، للوصول بالنهاية إلى الإنسان الكامل. إن تكلفة الشريحة مرتفعة جداً، لكن بما أنه واحد من الذين يقومون بالإشراف على إجراء هذه التجارب، فيمكنه أن يتدبّر لي إجراء العملية مجاناً، نظراً لظروفي المادية الصعبة.
في الوهلة الأولى، شعرت بالخوف من غرفة العمليات، لكنه أكد لي أنها عملية بسيطة، إذ يقوم روبوت جراحي متخصص، بإحداث ثقب في الجمجمة، ثم ادخال شريحة صغيرة رقيقة متصلة بسلسلة من الأقطاب الكهربائية والأسلاك الفائقة الدقة في الجمجمة، وتُشحن البطارية لا سلكياً. هدف هذه الشريحة تحفيز وزيادة قوة الإشارات التي ترسلها الخلايا العصبية، ما يؤدي إلى زيادة المرونة العصبية للدماغ.
لم يكن هناك مجال للتردد، وافقت على الخضوع للعملية الجراحية، وقّعت على أوراق رسمية بأني سأتحمل جميع المخاطر الناتجة عنها. كانت الأمور أبسط مما توقعت، لقد استغرقت العملية أقل من ساعة واحدة، وأمضيت ثلاثة أيام في المستشفى، وهم يحقنونني بالمضادات الحيوية خوفاً من الالتهابات التي قد تنشأ أحياناً بعد العمليات الجراحية.
غادرت المستشفى وأنا أشعر بأني أصبحت أكثر ثقة بنفسي وأكثر عدوانية وتفاؤلاً بالمستقبل. عدت إلى وظيفتي، فهالني تفاهة العمل الورقي المكتبي الذي كنت أمارسه، فأنا خريج المعهد العالي للمساحة، ولاحظت كم كانت زميلتي بالمكتب قبيحة ومحدودة التفكير، واستغربت كيف أني كنت قد وعدتها بالزواج.. إنه الشعور بالولادة من جديد، اتصلت بالمكاتب العقارية، باشرت بالعمل لديها لرسم المخططات التي تبيّن حدود الأراضي والعقارات، واكتشفت وقتها كميات المبالغ الكبيرة التي تدفع كمسيونات للسماسرة لتسهيل الأعمال، بعد أن حصلت على مبلغ مالي جيد، اشتريت سيارة جيب بحالة جيدة بالتقسيط، لتتماشى مع طبيعة عملي، وأعطيت سيارتي القديمة لأختي.
نعيش اليوم في مجتمع استهلاكي، تسيطر عليه المظاهر الخداعة. تحتاج فيه إلى سيارة جديدة وملابس أنيقة، لكي تنتمي إلى هذا المجتمع، وبعدها سيقودك ذكاؤك وإمكانياتك الخاصة لكي تحتل المكان المناسب فيه. لاحظت مع مرور الوقت كمية الأموال الهائلة المتوافرة في السوق، وأن أغلب العاملين فيه أغبياء، وهناك قلة من الأذكياء تستغل تركيب هذه المنظومة لمصلحتها، ولقد أصبحت الآن أنا واحداً منهم.
مع مرور الوقت وتحسُّن أحوالي، بدأت أحسّ بمضاعفات بسيطة لزرع الشريحة الإلكترونية، فلقد أخذت ضربات قلبي تزداد وساعات نومي تقل، لكني تحاملت على نفسي، وحاولت الاستفادة من هذا الوقت الإضافي بزيادة ساعات عملي، وأخذت تهاجمني أحياناً نوبات من الصداع بسبب قلة ساعات النوم، وعلى الرغم من كل هذا، لم أطلب المساعدة من مركز الأبحاث والتجارب، خوفاً من أن يوقفوا هذه التجربة، إلى أن تلقيت منذ يومين رسالة خطية على جوالي تطلب مني مراجعة المستشفى فوراً، فأحسست بالخيانة، لم أكن أعرف حتى هذه اللحظة بأن هذه الشريحة متصلة بالأقمار الصناعية، وهي تزود مركز التجارب بالمعلومات عني وعن محيطي، وأن هذه الشريحة أصبحت مركزاً محلياً للتجسّس، ومن خلالها يمكن للمركز أن يتحكم بشكلٍ جزئي في عقلي، وفي السيطرة على بعض وظائف الأعضاء في جسمي، شريحة فائقة الذكاء تسمح للتكنولوجيا بالسيطرة على حاملها، وتحوله إلى شبه آلة يجري توجيهها وفقاً للتعليمات.
كان لا بدَّ لي من مراجعة مركز التجارب، لقد قاموا بنزع الشريحة عن دماغي، لأن وضعها الحالي أصبح يهدّد حياتي، بعد الانتهاء من العملية، جلست مع مدير المركز، وعدني بأن هناك شريحة جديدة سحرية متطورة من الجيل الثالث، ستخضع للتجارب بغضون الأشهر الثلاثة القادمة، وسأكون من أوائل المستفيدين منها، سيقوم المركز بزرعها في دماغي لمتابعة الدراسات التي أجريت عليه، واصل حديثه بأن هذه الشريحة المتطورة بإمكانها أن تسيطر كلياً على وظائف الأعضاء بالجسم، كما يمكنها التحكم بمزاجي وانفعالاتي، وتجعلني سعيداً.
سألني الطبيب: “ماذا تنوي أن تفعل خلال فترة الانتظار؟”.. فأخبرته بأنني استقلت من وظيفتي، وأصبحت متعطلاً عن العمل، فأخرج ظرفاً من درج مكتبه وأعطاني إياه، قائلاً إن فيه مبلغاً من المال، وعليَّ تدبر أموري، حتى يحين موعد زرع الشريحة الجديدة.
 خرجت من المستشفى وأنا أشعر بالسعادة، وها أنذا بدأت أعدُّ الأيام المتبقية لزرع الشريحة المتطورة، لقد أصبحت أول مرة في حياتي آلة مفيدة للمجتمع.