الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

جَدّ وأحفاد

عبد الكريم النّاعم

لِأمر ما، جاء من شباب العائلة مِن هو بمنزلة أحد أحفادي، وشرح لي ضرورة ذهابي معه، وحاولتُ الاعتذار، متذرّعاً بالوضع الصحي، فرجاني بحرارة، وقال: “جدّو.. البيت طابق أرضي، وليس ثمّة درج، وبمجرّد أن تشعر بالملل سأعيدك إلى البيت”.. لم يكن ثمّة مناص،..

بعد أنْ انتهينا من الموضوع الذي طُلبتُ لأجله، تفرّستُ في تلك الأعمار الشابة، المتفتّحة كأزاهير الربيع، ومرّت بذاكرتي ذكرياتٌ عميقة، مضطرِبة، وصاخبة، وداهمتْني أحلام جيلنا المُنقرِض، والذي لم يبق منه إلاّ نُفاضة، وكم كانت أحلامنا ومطالبنا عالية، وكم كانت خيباتُنا قاسية، ومؤذية، وهذا وحده يحتاج إلى أكثر من كتاب.. قلتُ في نفسي سأفتح بعض الحوارات مع هذا الجيل الذي وُلِد وهو لا يعرف إلاّ الأزمات المتتابعة، والحاجة، وقلّة الكهرباء، بل هي قِلَة في كلّ شيء، وكلّهم طلاّب جامعة،

قلت: “هل منكم مَن يهتمّ بالسياسة؟!!”.

أجابوا بأصوات مُتداخلة يصعب التّمييز بينها، في غمرة من البهجة، وامتدّت أصابعهم إلى أحدهم، وأشاروا إليه بطريقة مَن وضع يده على أمر ضائع، متصايحين: “هذا..”.

قلتُ له محوِّلاً وجهي ناحيته: “جدّو، اسمح لي أن أسألك، هل تَتابع مجريات الحرب في فلسطين المحتلّة؟”.

أجاب: “بقدر توافر الكهرباء”.

قلت: “هل ترى أنّ نتنياهو لا يريد لهذه الحرب أن تنتهي؟”.

قال: “نعم، أرى بعض ذلك”.

قلت: “لماذا في رأيك؟”.

قال: “لقد خضّت هذه الحرب المجتمع الصهيوني خضّاً عنيفاً، وأحدثتْ فيه تشقّقات لا يخفيها غير أنّ المعركة دائرة، وبظنّي أنّ انتهاء الحرب، ولا سيّما إذا لم يحقّق فيها نتنياهو أيّ انتصار، وهذا ما يرجّحه بعض المحلّلين، انتهاؤها سيكون سبباً في بروز تلك التشقّقات النفسيّة، والمجتمعيّة، وسيؤدي إلى تفجّرات داخليّة عديدة، ولا سيّما أنّ العالم في معظمه يقف مع الحقّ الفلسطيني، هذا على فرض أن اختراقاً غير متوقّع لن يحدث لمصلحة المشروع الأمريكي، مدعوماً ممّن يُسمّون عرب أمريكا، يخلط الأوراق، وحتى إذا حدث شيء من هذا فلن ينفي ما أصاب الجسد الإسرائيلي، وستمتد آثاره لأزمنة مديدة”.

زملاؤه كانوا ينظرون بأعين مَن يستمع إلى مُحاضرة زُجّ فيها.

أعجبتْني نباهته، وأثنيتُ على رؤيته، وأردتُ استكشافاً آخر، فقلت لأحدهم، وحضوره يذكّر بطيور الدّوري الحَذرة: “وأنت يا جدّو.. ما هي اهتماماتك؟ وكيف ترى مستقبلك؟”.

بدا عليه أنّه فوجئ، فأجاب بارتباك، قالباً شفته السفلى، وقال متردّداً: “أنا سأحاول السفر إلى بلد غربي”.

سألتُ مَن يبدو عليه شيء من الوقار: “وأنت يا جدّو؟”.

قال: “أنا أنتظر ما تحمله الأيام، وإنْ تكنْ ثقتي مهزوزة”.

قاطعني أحدهم: “جدّو أنت تسألنا، وأنا أريد أن أسألك، أليس جيلكم هو الذي أورثَنا ما نحن فيه؟”.

قلت: “من بعض الزوايا نعم.. لكن اسمح لي أنْ أجلو بعض الغبش، بلادنا يا جدّو مطموع فيها لأسباب كثيرة، وفيها من التنوّع الثقافي، والإثني، والمذهبي، والديني، ما يدلّ على عُمق الجذر الحضاري، وتعدّده، وإنّ كان الغالب عليه الثقافة العربيّة الإسلاميّة، وهذا حين نُدركه بوعي يكون مصدر غنى رائع، يساعد على المزيد من سعة الآفاق، وبهاء ألوانها، وحين يصاب المجتمع بفيروسات التفرقة، والمّذْهبَة، ونبش جيفة التاريخ.. يصبح منافذ بالغة الخطورة يتسلّل منها الطامعون، واللصوص، والباحثون عن المكاسب الشخصيّة، والذين يبيعون حليب أمهاتهم لأوّل من مشترٍ، غير آبهين إلاّ بالمال، وحينئذ يُصاب المجتمع بجراح عميقة قد يحتاج شفاؤها إلى أجيال”..

قاطعني أحدهم: “أتريد القول إنّ هذا دورنا؟”.

قلت: “نظر إلى ما يجري في الأرض المحتلّة، هل ثمّة مَن يُقاتل إلاّ أهل الأرض، وأصحاب القضيّة”.. وقمتُ واقفا مستأذناً بالانصراف…

aaalnaem@gmail.com