دراسات

شهداء 6 أيار.. مشاعل على طريق النصر والتحرير

د. معن منيف سليمان

يحتفل الشعب العربي في البلدين الشقيقين سورية ولبنان بعيد الشهداء في السادس من أيار من كل عام تخليداً وتكريماً لذكرى إعدام شهداء وطنيين من كلا البلدين على يد المحتل العثماني في عام 1916، بأمر من الوالي العثماني جمال باشا الذي عُرف بـ”بالسفاح”، وكان هدف هؤلاء الأبطال تحرير بلادهم من الاحتلال العثماني الذي امتدّ إلى أكثر من أربعمئة عام من الظلم والاستبداد والاستعباد، فكانوا بحق مشاعل الهدى والوطنية على طريق النصر والتحرير، تستلهم منهم الأجيال قيم التضحية والفداء في سبيل الوطن.

ففي عام 1908، تعاظم نفوذ “جمعية الاتحاد والترقي” العنصري التركية وازدادت شعبيتها، فعملت على إقصاء العرب عن وظائفهم في الدولة، وبعد أن تمّ عزل السلطان عبد الحميد وتعيين السلطان رشاد بدلاً منه في عام 1909، تفرّدت الجمعية في حكم البلاد وأخذت تستبد في الحكم، فقامت بحلّ الجمعيات غير التركية، ما دفع العرب للمجاهرة بمطالبهم بالإصلاح ـ وليس الاستقلال ـ فعقدوا مؤتمر باريس، لتأكيد مطالبهم.

ولكن مع نشوب الحرب العالمية الأولى، ودخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا واتهام بعض القادة العرب بالاتصال ببريطانيا وفرنسا أعداء تركيا، وجد الاتحاديون فرصة مناسبة لقمع الأصوات العربية المطالبة بالإصلاح، على يد الوالي العثماني الجديد جمال باشا الذي أصبح قائداً للقوات العثمانية في بلاد الشام.

في البداية تظاهر جمال باشا بالتقرب من الإصلاحيين العرب، ولكنه كان في الحقيقة يسعى للاطلاع على أسرارهم تمهيداً للبطش بهم، حيث بدت نياته الحقيقية واضحة عندما عقد “الديوان العرفي” في عاليه بلبنان، وأصدر حكماً من خلاله على عدد من القادة العرب، وقضى بإعدامهم شنقاً، في السادس من أيار عام 1916، فأعدم ثلاثة عشر منهم في ساحة البرج في بيروت وأعدم سبعة منهم في ساحة المرجة بدمشق.

كانت التهمة التي ألبسها جمال باشا لهؤلاء الأبطال هي التخابر مع الاستخبارات البريطانية والفرنسية أعداء الدولة العثمانية، في حين كان سعيهم في الحقيقة نحو الاستقلال بعد أن خاب أملهم وأخفقت مساعيهم بقيام السلطات التركية بأية إصلاحات تحفظ حقوق وكرامة العرب.

وتجدر الإشارة إلى أن السلطات العثمانية أعدمت قبل هذا التاريخ وبعده أشخاصاً آخرين شغلوا أدواراً مماثلة، وخاصة في 21 آب عام 1915، الذي أعدمت فيه عشرة أشخاص من سورية ولبنان وفلسطين في بيروت.

ومن خلال نظرة فاحصة إلى أسماء الشهداء ومدنهم نجد أن هؤلاء المناضلين الأبطال عبروا حدود الطائفية والمذهبية والجغرافيا فهم من كل فئات الوطن من دمشق وحمص واللاذقية وحماة وبيروت وبعلبك وعكار وطرابلس والقدس ويافا وغزة، ومنهم الشيخ عبد الحميد الزهراوي، من حمص، وشكري بك العسلي، من دمشق، وبترو باولي، من التابعية اليونانية في بيروت، وعمر حمد، من بيروت، والشيخ أحمد طبارة، إمام جامع النوفرة في بيروت، ومحمد الشنطي اليافي، من يافا بفلسطين، ومحمد المحمصاني، من بيروت، والشيخ محمد مسلم عابدين، مأمور أوقاف اللاذقية، وصالح حيدر، من بعلبك، وعلي الأرمنازي، من حماة، والخوري يوسف الحايك، من بيروت، والشيخ أحمد عارف، مفتي غزة وولده، أعدما في القدس عام 1917.

كانت هذه الجريمة دلالة واضحة وشاهداً صارخاً يؤكد أن الحكم العثماني هو حكم استبدادي مطلق، يستخدم البطش والقتل وسيلة لإسكات الأصوات المعارضة الإصلاحية، وأن الوعود بالإصلاح التي كان يقدّمها للعرب ما هي إلا سراب وكاذبة في مجملها. ومع تفاقم الأمور وتطوّرها تصاعد الإرهاب والبطش العثماني وأمعنت السلطات العثمانية في ممارسة سياسة التتريك لتذويب العنصر العربي وطمس هويته، ما فجّر الثورة العربية الكبرى التي أسفرت أخيراً عن طرد العثمانيين من الوطن العربي.

هذه العقلية العثمانية التي يسعى رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان جاهداً لإعادة إحيائها من خلال احتلال الأراضي السورية، ودعم التنظيمات الإرهابية المسلحة وإجراء تغيير ديموغرافي في الشمال السوري عبر أدواته مما يسمّى “الجيش الوطني” وإجبار السكان على ترك مناطقهم وإحلال عناصر إرهابية وأسرهم مكانهم، والإمعان في سياسة التتريك نفسها التي مارسها أسلافه العنصريون من جماعة الاتحاد والترقي سابقاً عبر تغيير المناهج التربوية والتعليمية السورية في المناطق المحتلة.

إن سورية التي قدّمت قوافل الشهداء في سبيل تحرير الوطن، لن تبخل في تقديم قوافل أخرى في سبيل طرد العثماني الجديد من أراضيها، فكما قدّمت شهداء السادس من أيار في الأمس تستطيع اليوم أن تقدّم شهداء آخرين، حتى تتحرّر جميع الأراضي التي اغتصبها المحتل التركي.

لقد شكّلت دماء شهداء السادس من أيار رافعة النضال الوطني ضد المحتل، ومشاعل أضاءت مستقبل الأجيال نحو التحرير والاستقلال، حتى دحر الاحتلال العثماني، وجلاء المستعمر الفرنسي عام 1946، إلى أن تأسّست مدرسة الشهادة أو النصر التي وضع ركائزها القائد المؤسس حافظ الأسد وأنجزت تشرين التحرير 1973، وتحرير جنوبي لبنان 2000، وصمود 2006، فغدت سورية محور المقاومة وجبهة الممانعة للمشاريع الصهيو أمريكية في المنطقة، والداعم الأساس لحركات التحرّر والمقاومة في الوطن العربي.

وقد حرص السيد الرئيس بشار الأسد على إبقاء الشهادة قيمة إنسانية مشرفة للأجيال من أبناء الشهداء الذين يعيشون تحت رعايته وقيادته باهتمام كبير وعناية فائقة، ما جسّد الشهادة كقيمة عليا في المجتمع.

واليوم، وبفضل دماء الشهداء تمكّن السوريون من التصدّي للمرتزقة الإرهابيين أدوات الغرب الاستعماري في الحرب على سورية، منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، حيث قدّمت سورية عشرات الآلاف من الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداء للوطن لكي تبقى سورية آمنة ومستقرّة وموحّدة، وبفضل دماء شهداء الجيش العربي السوري الطاهرة يقف السوريون صفاً واحداً إلى جانب بعضهم لا يفرّقهم دين ولا مذهب ولا جغرافيا يلتفون حول جيشهم وقائدهم لاستكمال النصر ودحر الإرهاب والاحتلال من الأراضي السورية، والبدء بإعادة الإعمار والبناء، متمسكين بثوابتهم الوطنية التي أرست قواعدها دماء الشهداء الأبرار.