عسكرة أوروبا تتسارع.. وواشنطن تحرّض.. مَن سيشعل شرارة الحرب؟
طلال ياسر الزعبي
لا شك أن الصراع القائم بين روسيا وحلف شمال الأطلسي “ناتو”، قد بلغ مراحل خطيرة حالياً، وذلك أن كلاً من الطرفين بات ينظر إلى المعركة القائمة مع الآخر حالياً في أوكرانيا على أنها معركة وجود، فلا روسيا في وارد منح الحلف أيّ فرصة لتحقيق أي إنجاز عسكري ضدّها في المعركة، ولا الحلف ذاته مطمئنّ إلى الإنجازات التي حققتها روسيا حتى الآن في المعركة الدائرة بينهما هناك، وخاصة أن الإصرار الغربي على دعم أوكرانيا في هذه الحرب بالوكالة إلى ما لا نهاية لا يعني إلا شيئاً واحداً بالنسبة لموسكو، وهو أن المقصود في المعركة أولاً وأخيراً هزيمة روسيا استراتيجياً وتدميرها وصولاً إلى استعمارها، ما يعني أن المعركة بلغت ذروتها بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
وإذا كانت الولايات المتحدة، المستفيد الأول من هذه المعركة، تعتقد أنها بعيدة عن الآثار المباشرة لها، على اعتبار أن المعركة كلها تجري داخل أوروبا، أي بعيدة نسبياً عن البرّ الأمريكي، فإن الأمر بالنسبة إلى الاستراتيجيين الأمريكيين خلاف ذلك، حيث لا تزال الولايات المتحدة تدرك أن أوروبا هي حديقتها “الأمامية” إن صحّ التعبير في مواجهة زيادة النفوذ الروسي، والحاجز الأكبر أمام تمدّد روسيا في هذا العالم، وهذا التمدّد هو نتيجة طبيعية عادة للشعور بالقوة، أو لنقل لظهور علامات القوة في أيّ إمبراطورية، وخاصة إذا كانت التأثيرات تأتي بشكل طبيعي نابع من تطوّر حضاري حقيقي، ينتج قوّة حضارية تستطيع التأثير في سائر الأمم، وهذا بالضبط ما يخيف الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي حقيقة الأمر، سواء أكانت أوروبا مدركة لمخاطر وقوعها في منطقة التماس المباشر بين روسيا شرقاً والولايات المتحدة غرباً، وأنها جغرافياً على الأقل يجب أن تكون ساعية لتحقيق علاقات متوازنة مع جارتها روسيا، فإن التحريض القادم من غرب المحيط تحت عنوان عرقي بالدرجة الأولى، وهو أنجلوسكسوني بالدرجة الأولى، في مواجهة العرق السلافي الذي تمثّله روسيا وأوكرانيا على الأغلب، ربّما يكون هو الدافع الحقيقي لهذا العداء المستحكم الذي يكنّه الغرب الأوروبي لروسيا، وهو في الحقيقة الذي يغذّي الشعور الأوروبي بضرورة الإصرار على هزيمة روسيا في أوكرانيا حتى لا تتمكّن الأخيرة من التهام البر الأوروبي الذي ظهر ضعفه بعد أن عملت واشنطن طوال العقود الماضية على تقليم أظافره لإيهامه بأنها هي الوحيدة القادرة على حمايته من أيّ غزو خارجي، وقد حدث ذلك بالفعل.
والآن، وبعد أن أمعن الغرب الأوروبي في عدائه لروسيا لم يعُد من الممكن في نظره العودة إلى الوراء، وإعادة حساباته عبر تصحيح علاقاته بموسكو، الأمر الذي جعله مضطرّاً للسير خلف الولايات المتحدة دون تفكير في العواقب، بعد أن تزايد الشعور لديه بأن نشوة الانتصار الروسية ستعزز لدى القادة الروس الإحساس بضرورة الاندفاع للتوغّل في أوروبا، تماماً كما حدث في الحرب العالمية الثانية عندما تمكّن الجيش الأحمر السوفييتي من دخول برلين والقضاء على النازية وهزيمة ألمانيا الهتلرية، وهذا بالفعل ما يجبره على تزويد أوكرانيا بأحدث أنواع الأسلحة لإطالة أمد الأزمة ليس إلا، مع علمه اليقيني بأن الجيش الروسي تمكّن فعلياً من النصر في هذه المعركة.
ومن هنا، بدأ الشعور بقرب التصادم المباشر بين حلف شمال الأطلسي وروسيا داخل أوروبا يثير الرعب لدى الحكومات الأوروبية التي شعرت فعلياً بأن أوروبا ستحتضن الحرب النووية التي ستكون نهاية العالم حسب اعتقادها، وذلك لأن ظهور مقاتلات “إف-16” ذات الاستخدام المزدوج في أوكرانيا ستعدّه روسيا شرارة حرب نووية، فهذا النوع من الطائرات بالذات شكّل لسنوات عديدة أساس أسطول الطائرات الذي يُستخدم فيما يسمّى “المهام النووية المشتركة” لحلف الناتو، الأمر الذي يثير شكوكاً قوية حول إمكانية كونها حاملة للأسلحة النووية، وبالتالي ستعدّه موسكو بمنزلة استفزاز متعمّد، ربّما يدفع روسيا إلى استهدافها قبل إقلاعها من المطارات الأوروبية، وذلك في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن استغباء الأوروبيين والتقليل من أهمية الأمر من خلال تصريح البنتاغون بأنه يأخذ على محمل الجد إمكانية وقوع مثل هذه الأسلحة بيد القوات الروسية، بينما تدرك واشنطن خطورة المشهد جيّداً وتعلم أنها تستخدم أوروبا كلها رأس حربة في مواجهة روسيا.
لذلك ليس غريباً أن تقول المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا: إن تدريبات الناتو Steadfast Defender، تشير إلى أن الحلف يستعدّ لـ”صراع محتمل” مع روسيا الاتحادية، مؤكدة ضرورة الاعتراف بذلك، وهو الأمر الذي يتحدّث عنه علانية ممثلون رفيعو المستوى في الناتو، وأن الناتو يبحث فقط عن الذريعة، باستخدام التضليل، وتضخيم درجة الهستيريا المناهضة لروسيا من أجل تبرير النطاق غير المسبوق لعسكرة أوروبا.
وما يهمّ حقيقة في هذا التضليل الأمريكي تركيز الخارجية الأمريكية، على بثّ الرعب داخل ألمانيا وجمهورية التشيك وليتوانيا وبولندا وسلوفاكيا والسويد، وهي دول على تماسٍ مباشر مع روسيا جغرافياً، الأمر الذي يؤكّد رغبة واشنطن في زيادة عسكرة هذه البلدان، وهذا ما حدث بالفعل إذ يتزايد الحديث في هذه الدول عن اتخاذ إجراءات تمكّنها من القدرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة روسيا، ولن يكون ذلك طبعاً إلا من خلال استجرار السلاح الأمريكي وتحريك مصانع السلاح الأمريكية، ويساهم في ذلك طبعاً تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين حول ضرورة التفكير في إرسال قوات إلى أوكرانيا، وهذا ما دأب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على التحريض عليه طوال الفترة الماضية، رغم معارضة الكثير من الدول الأوروبية لهذا الإجراء، حيث أكّد وزير دفاع إيطاليا غويدو كروزيتو تمسّك بلاده بموقفها الرافض للتدخل المباشر في النزاع الأوكراني، معتبراً أن تصريحات رئيس فرنسا الأخيرة حول أوكرانيا “تؤجّج التوتر”، بينما جدّد نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، رفضه القاطع إرسال جنود إلى أوكرانيا، مؤكّداً أن بلاده ليست في حالة حرب مع روسيا، وبالتالي لن يرسل جنوداً إيطاليين للقتال في أوكرانيا.
وفي جميع الأحوال تمكّنت الولايات المتحدة الأمريكية من زرع الرعب في نفوس الأوروبيين، الأمر الذي جعلهم مضطرّين للبحث في جميع الاحتمالات، ومن ضمنها اندلاع حرب بين الحلف الأطلسي وروسيا انطلاقاً من أوروبا، حيث أكد العقيد الألماني أندريه ووستنر رئيس اتحاد الأفراد العسكريين في الجيش الألماني أنه من الضروري جمع بيانات جميع الأشخاص المناسبين للخدمة العسكرية، وأنه “يجب النظر في مسألة كيفية جمع البيانات عن جميع الأشخاص المناسبين للخدمة العسكرية تحسّباً لأي عملية تجنيد”.
ومثل هذه التصريحات الأوروبية التي توحي بضرورة الاستعداد لأيّ نزاع عسكري محتمل مع روسيا، بات يتردّد على ألسنة الجميع في أوروبا، الأمر الذي يطرح مجموعة من الأسئلة حول عسكرة أوروبا، وما إذا كان هذا الأمر تابعاً فقط لحاجة أمريكية لجلب أرباح لشركات السلاح الأمريكية، أم أن الأمور بالفعل باتت مفتوحة على جميع الاحتمالات بما فيها الحرب النووية.
ربّما يشكّك بعض المحللين بإمكانية الانزلاق إلى مثل هذا المنحدر، غير أن جميع البوادر تؤكّد أن العالم بات على شفا حرب عالمية ثالثة ربّما تبدأ من أوروبا، ولكن نهايتها لا يستطيع أحد التكهّن بها.