ما بين الإيديولوجيا والعقيدة… حديث الرفيق الأمين العام في اجتماع اللجنة المركزية الموسّعة
د. عبد اللطيف عمران
أضاف الحديث الشفاهي المرتجل للرفيق بشار الأسد، الأمين العام للحزب، في افتتاح اجتماع اللجنة المركزية الموسّعة، صباح السبت 4 أيار 2024، نسقاً جديداً غير معهود في أدبيات البعث، وفي خطابه، إذ يندرج الحديث في سياق المثاقفة الجامعة بين السياسي والفكري والاجتماعي، بما فيها من طرح للفكرة وبيان لواقعيتها كإنجاز ممكن في العمل وفي الحياة؛ فاعتبره الكثير من المحللين وثيقة مهمة جداً، بل تاريخية، في نظرية الحزب وفي العمل الحزبي المنشود، وقيمة مضافة وضرورية، خاصة في المرحلة التي يعيشها الحزب والمجتمع والوطن والأمة، والعالم أيضاً.
ينطوي الحديث الشفاهي على جملة من الأفكار المتنوّعة، لكن المتسلسلة منطقياً، فحافظ، رغم طوله نسبياً، على الوحدتين العضوية والموضوعية. ومثاقفة الحديث بمجمله في مقال أمر لا شك عصيّ على التحقيق، لذلك لا بد من تخيّر طرح واحد من طروحاته، عملاً بمنهج سيادته في عقلنة العبارة، والذي اختزله بجملة عابرة إذ قال: (عندي أجوبة لكن لن أقطع الطريق على النقاش والحوار على المستويات الحزبية والوطنية)، ويبدو أن هذه الأجوبة صادرة عن أسئلة ضمنية ومعلنة، في آن واحد، فالثقافة التي تغيّب السؤال يفضي هذا التغييب فيها إلى فشل مشروعها وطروحاتها أيضاً.
هذا التخيّر هو في طرح الرفيق الأمين العام لسؤال العقيدة والإيديولوجيا، وفي الإجابة عنه، وفق المنهج المعلن أعلاه؛ وقبل اقتباس ما تحدث به سيادته، يجدر بالذكر أن هذا السؤال مثقل تاريخياً، وحتى اليوم، بتركة فكرية عميقة تقع في ميدان واسع ومضطرب للاجتهاد والتأويل بين كبار الباحثين، نظراً إلى جمعه بين الفضاءين المعرفي والسياسي.
فلطالما تحدّث كثيرون منّا عن أفول عصر الإيديولوجيا وأحزابها، وأن عالم اليوم هو عالم البراغماتية وليس عالم العقائدية، دون أن نأخذ بالحسبان أن هناك طرحاً واسعاً بين المفكرين في عالم اليوم حول (وهم الحياد العلمي)، إذ كثيراً ما تغيب الموضوعية عن البحث والمنجز العلميين، وتحل محلها الإيديولوجيا أو العقائدية؛ فليس العلم نقيضاً للإيديولوجيا بل يمكن اعتباره إيديولوجيا بحد ذاته، فالحيادية العلمية المتحررة من القيم الاجتماعية، ومن الإيديولوجيا، صارت موقع شك في كثير من الدراسات الأكاديمية؛ ولعل الفيلسوف كارل بوبر واحد من أبرز المهتمين بهذا الطرح، إذ يرى صعوبةً في التخلّص من (الانحيازات المسبقة)، حتى في مجال البحث العلمي والدرس المعرفي.
وللاستراتيجيين وللسياسيين آراء ومواقف وقرارات مهمة في هذه السياق، نذكر قليلاً منها: ففي عام 1978، أعلن المؤتمر التاريخي للحزب الشيوعي الصيني، بزعامة دينغ جياو بينغ، عدم تخليه عن العقيدة الشيوعية، رغم أنه سار على طريق التطور الرأسمالي مبتدعاً اقتصاد السوق الاشتراكي ذي الخصائص الصينية. ومع الثورة الإسلامية في إيران، قال كسينجر قولته الشهيرة: على إيران أن تختار بين العقيدة السياسية أو الإيديولوجيا، وبين الدولة. وهناك أبحاث اليوم في – عودة روسيا إلى الإيديولوجيا – بحزب (روسيا الموحدة)، وبزعامة بوتين، وأن حوالي 70٪ من الروس ينظرون باحترام إلى هذه الإيديولوجيا الجديدة للدولة.
ما ورد أعلاه هو بمثابة تمهيد مناسب وضروري لما طرحه الرفيق الأمين العام للحزب في هذا الحقل المعرفي والسياسي، ولا سيما أن الفصل والوصل بين مفهومي العقيدة والإيديولوجيا لا يزالان إشكاليين، مع ترجيح ميل العقيدة إلى القداسة والوراثة، بينما الإيديولوجيا إلى الخيار والواقعية، دون تغييب غير قليل من (الإكراه – الالتزام)، في كليهما.
قال الرفيق الأسد: (حزبنا حزب عقائدي، وعقائديته هي المشكلة الأكبر التي تجابه أعداءنا، وهي تحمي المجتمع والدولة والوطن، وأخطر ما يواجه الأوطان اليوم هو الحروب العقائدية التي تهدف إلى أن يصل الشعب إلى ثقافة اليأس التي تتحول، مع الزمن، بخطرها إلى ما يشبه عقيدة.. وحينئذ، لا يمكن مواجهتها إلّا بالفكر العقائدي… فليس صحيحاً ما يُروّج له منذ ثلاثة عقود أن عصر الإيديولوجيات والأحزاب العقائدية قد انتهى، إذ أننا نعيش اليوم مرحلة إيديولوجية على مستوى العالم… والبعث مازال قوياً، مؤسسة وعقيدة، رغم وجود كثير من السلبيات التي يعد ضعف ممارسة عملية التطوير أحد أهم أسبابها).
لقد كانت طروحات الرفيق الأسد في مختلف الموضوعات على غاية من الأهمية، لكن ما يجدر النظر فيه بإمعان هو ما اختتم به حديثه، حين أكد أن (قوة الموقف الرسمي والحزبي تكمن في تماهيها مع الموقف الشعبي). وهذا مدخل للبحث في الحزب الجماهيري، وهذا ما يستلزم الوقوف على الضفة الأخرى.