الصهيونية فكرة ومال وحامل؟
كيف تتحوّل الفكرة إلى كائن حي وواقع قائم؟ مسألة تحتاج إلى تحليل وقراءة ومعاينة وتتبّع، ففكرة قيام كيان صهيوني برزت على السطح نهاية القرن التاسع عشر في كتاب ألّفه المحامي اليهودي النمساوي تيودور هرتزل تحت عنوان الدولة اليهودية، وثمّة مَن ترجمه دولة لليهود لجهة أن المقصود بذلك أي مكان في هذا العالم، وليس بالضرورة في فلسطين، ولكن بالعودة إلى ما ورد في نقاشات وقرارات مؤتمر بال 1897، يتضح أن المؤتمر وبضغط من أعضائه الروس والمتدينين حدّد فلسطين المكان المقصود بوصفها، وفق زعمهم وروايتهم، الأرض الموعودة في كتاب التوراة، فقد اتخذ المجتمعون القرار التالي: إن أماني الصهيونية هي إنشاء وطن للشعب اليهودي يُعترف به من الناحيتين الرسمية والقانونية، ويصبح الشعب اليهودي بإنشائه في مأمن من الاضطهاد على أن يكون هذا الوطن هو فلسطين.
وتوالت المؤتمرات بعد ذلك، وكان السؤال كيف يمكن لليهود (استعادة) فلسطين، فاتفقوا أن ذلك يحتاج ويستلزم جهدين، جهداً داخلياً يرمي الصهاينة من خلاله إلى تنظيم أنفسهم وإعدادها لاستعادة فلسطين، وجهداً خارجياً يرمي للبحث عن دولة تساندهم وتحقق ما تصبو إليه نفوسهم، فمن الناحية الأولى أنشؤوا جهازاً إدارياً دقيقاً لجمع الأموال، وظهرت جمعية عشاق صهيون لنشر وإحياء اللغة العبرية وللدعوة إلى إنشاء مستعمرات زراعية في فلسطين عبر شراء الأراضي بتواطؤ مع الدولة المنتدبة، وهي بريطانيا، ودفع أكبر عدد من اليهود للهجرة إلى فلسطين، وهنا نشير إلى دور رأس المال اليهودي في التمويل السخي للمشروع الصهيوني ودور المليونير اليهودي روتشيلد الذي فتح خزائنه لهذا الغرض دون حساب، ومن ناحية درس القادة الصهاينة أحوال القوى الاستعمارية المتصارعة آنذاك لينحازوا للمعسكر الذي يتفق مع أغراضهم، ووجدوا في بريطانيا خير حليف، لذلك أعلن زعيمهم الجديد بعد وفاة تيودور هرتزل حاييم وايزمان ارتباط مصالح اليهود بمصالح بريطانيا، وانضمّ صراحة إلى معسكرهم، الأمر الذي أدّى إلى صدور وعد بلفور عام 1917 الذي تكمن أهميته وخطورته ليس في مضمونه، وإنما برافعته وقوة حامله وهي بريطانيا التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الأولى بالشراكة مع فرنسا، وتمهّد لإنشاء نظام دولي تحت مسمّى عصبة الأمم، وتستحدث صيغتي الانتداب والوصاية لتكونا غطاءً ومسمّى مضللاً ومخادعاً للاستعمار وتوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني لتكون الحاضنة للجنين اليهودي الصهيوني الذي سيُولد عام 1948، وتتولّى ولادته وشرعنة وجوده الولايات المتحدة الأميركية المنتصرة بالحرب العالمية الثانية مع ولادة نظام دولي جديد هو هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ويكون من أول قراراتها القرار 181 عام 1947 لجهة شرعنة وجود ذلك الكيان اللقيط الذي قُبل بعد ذلك بسنتين عضواً في الأمم المتحدة ضمن شروط لم يلتزم بها حتى هذا التاريخ، تتعلق بتنفيذه للقرارين 181 أي قرار التقسيم وقيام دولة فلسطينية والقرار 194 القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتعويضهم عمّا لحق بهم من خسائر نتيجة الاعتداءات الصهيونية وانتهاك الهدنة ووقف إطلاق النار بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948.
لقد تحقق الحلم الصهيوني بقيام ذلك الكيان الغريب عن المنطقة وهويتها، ولكنه جاء محققاً لمصالح استعمارية غربية واستراتيجية تحول دون قيام دولة عربية موحدة بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث الذاكرة الأوروبية لا تزال تستحضر صورة الدولة العربية الإسلامية التي كادت تكتسح القارة الأوروبية وتدقّ أبواب فيينا وباريس. من هنا كان العقل الانكليزي يفكر للحيلولة دون تحقيق ذلك، فكان مؤتمر كامبل بنرمان 1907، حيث تم تشكيل لجنة مكوّنة من علماء التاريخ ورجال القانون والفكر والسياسة ليس من بريطانيا وحدها، وإنما من عدة دول أوروبية، ووجّه بنيرمان رئيس وزراء بريطانيا آنذاك خطاباً لتلك اللجنة جاء فيه أن الامبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حدّ ما ثم تنحلّ رويداً رويداً وتزول، وهي لا تتغيّر بالنسبة لأية امبراطورية أو أمة، فهناك إمبراطوريات روما وأثينا والهند والصين وقبلها بابل وآشور وغيرها، فهل ثمّة ما يحول دون انهيارنا بعد أن تستنفد أوروبا مواردها، بينما العالم الآخر يستعيد شبابه، وظل هؤلاء العلماء يتدارسون الأمور طوال سبعة أشهر ثم قدّموا نتيجة أبحاثهم في تقرير سري لوزارة الخارجية البريطانية جاء في بعض نقاطه:
ضرورة المحافظة على تخلّف الدول العربية وتفكّكها، فالخطر وفق التقرير يكمن في دول حوض المتوسط، وليس في آسيا وإفريقيا، وهذا البحر همزة وصل بين أوروبا والعالم، وحوضه موطن الأديان ومهد الحضارة، ويعيش في شواطئه وأطرافه شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والجغرافيا والدين واللسان، وكل مقوّمات التجمع والترابط والقوة، فضلاً عن ثرواته الطبيعية، فماذا ستكون النتيجة لو نقلت هذه المنطقة الوسائل الحديثة وإمكانات الثورة الصناعية وانتشر التعليم فيها وارتقت ثقافياً، فإذا حدث هذا فستحلّ الضربة حتماً بأوروبا، ولذلك علينا العمل على تجزئة هذه المنطقة وتأخّرها وإبقاء شعبها بحالة تفكّك وتأخّر وجهل، وضرورة العمل على فصل الجزء الإفريقي عن الآسيوي فيها ومنها، وتقترح اللجنة هنا إقامة حاجز بشري قوي وغريب يحتل الجسر البري الذي يربط آسيا بإفريقيا بحيث يشكّل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار وعدوّة لسكان المنطقة.
من خلال ما تمّت الإشارة إليه يظهر جلياً كيف نشأ وتطوّر وتحقّق المشروع الصهيوني عبر التخطيط والعمل المنظم والتشبيك مع مصالح القوى الكبرى وقراءة موازين القوى الدولية والانخراط في مصالحها وحيثياتها والاستثمار في لحظات التاريخ الهاربة التي ربما لا تتكرّر، والبحث الدائم عن قوة الحامل الداخلي أو الخارجي لإنجاز الأهداف الكبرى، وهنا تجدر الإشارة ونحن في إطار صراع مع العدو الصهيوني، ولاسيما ما يحصل في غزة واستطالاته على كامل المشهد الدولي في ظل إرهاصات أولى لنشوء نظام دولي جديد مع تبدّل في موازين القوى الدولية لا يصب في مصلحة العدو وحوامله وضرورة الوعي الاستراتيجي لذلك على المستوى العربي والاستثمار في ذلك لمصلحة تشكيل كتلة أو تكتل عربي أو إقليمي عسكري واقتصادي وثقافي يجعل من هذا التكتل المأمول رقماً صعباً وقوة فاعلة واستثماراً في عناصر قوّتها التي أشرنا إليها، والرهان على المنطقة ذاتها بدل الجلوس في مقاعد الانتظار وترقب بروز فطب أو أقطاب جديدة بدل قطب عربي منتظر لا يحتاج إلا لتوفر إرادة سياسية صادقة تنظر للمصالح العليا للأمة وأمنها القومي لا للمصالح القطرية الضيقة.
د. خلف المفتاح