ثقافةصحيفة البعث

القطيعة المعرفية والحداثة بين العقل الغربي والعقل العربي

نجوى صليبه

“لماذا لم ينجز العقل العربي حداثته؟”، سؤال يطرحه الدّكتور غسان السّيّد ويعنون فيه الفصل الثّاني من كتابه “القطيعة المعرفية والحداثة.. بين العقل الغربي والعقل العربي”، ويتبعه بقول “جورج غوسدروف”: “يتحدّد نظام كلّ ثقافي تبعاً للتّصوّر الذي تكوّنه عن الله والإنسان والعالم، وللعلاقة التي تقيمها بين هذه المستويات الثّلاثة في نظام الواقع”، ثمّ يعلّق: “يجمع المفكّرون العرب، وغير العرب، على أنّ العقل العربي يعيش أزمةً وجوديةً تجعله يعيش على هامش التّاريخ، هذا إذا لم قد خرج فعلاً على قول أدونيس”.

لكن هل يتّفق المفكّرون العرب على هذا التّوصيف؟ يجيب السّيّد بالقول إذا كان هؤلاء المفكّرون يتّفقون على هذا التّوصيف، فإنّهم يختلفون في أسباب عجز العقل العربي عن تحقيق حداثته الخاصّة التي تفرضها الضّرورة التّاريخية، ويتساءل: “وهل هو قادر فعلاً على إنجاز هذه الحداثة بوضعه الحالي؟ أي هل هو قادر بتكوينه وبنيته الحاليين بحسب محمد عابد الجابري، على القيام بهذه المهمّة؟”.

أسئلة إشكالية كثيرة ولن نبالغ إن قلنا الإجابة عليها صعبة وتحتاج إلى دراسات ودراسات، ويقرّ السّيّد بعدم الادّعاء بأنّها ستقدّم حلولاً، ولاسيّما أنّ مفكّرين مهمّين خاضوا في هذا المجال، وقدّموا إسهامات كبيرة، لم يظهر تأثيرها في الواقع العربي لأسباب مختلفة، لكنّه يحاول ها هنا إضافة وجهة نظر قد تكون مختلفة في بعض الجوانب عمّا قُدّم، ومن هؤلاء المفكّرين الجابري الذي لا يمكن تجاهل الدّراسة المهمّة والغنيّة التي قدّمها في كتبه “تكوين العقل العربي” و”بينة العقل العربي” و”الخطاب العربي المعاصر”، يوضّح السّيّد: “فتحت هذه الدّراسة الباب أمام نقاشات غنية ينبغي أن تستمر، لأنّه إذا لم يكن بالإمكان تغيير الواقع الآن، فمن الضّروري التّذكير فيه، وعدم نسيان أن علينا الخروج من عزلتنا القديمة وتخلّفنا، وعيش اللحظة الرّاهنة بكلّ إمكانياتها وآفاقها”.

ويبيّن السّيّد أنّ الجابري حاول تقديم رؤية شاملةً عن كيفية تكوين العقل العربي بوصفه الأداة المنتجة للمعرفة، ثمّ بنية العقل والأسس التي يقوم عليها، لكنّه يشير منذ البداية إلى اختلافه معه في بعض القضايا التي طرحها، منوّهاً بأنّ هذا لا يقلّل من أهميّة العمل الموسوعي الذي أخذ من صاحبه جهداً ووقتاً كبيرين، ويضيف: “يتحدّث الجابري عن أنظمة ثلاثة تحكّمت بالثّقافة العربية منذ عصر التّدوين: النّظام المعرفي البياني، والنّظام المعرفي العرفاني، والنّظام المعرفي البرهاني”.

ويتوقّف الكاتب عند بداية كلّ نظام والهموم التي شغلته والجوانب التي يختلف فيها عن النّظامين الآخرين أو يتّفق معهما عليها، لكنه يستغرب أنّ الجابري في بحثه هذا يقرّ بأزمة العقل العربي النّاتجة عن السّياق التّاريخي الذي تشكّل فيه، ويتحدّث بشيء من التّفصيل عن الصّراعات والأحقاد التي تعانيها الأمة بسبب هذه الأزمة التي لا تزال تعصف بالعقل العربي، ومع ذلك لا يتردد في الدّعوة إلى التّجديد من داخل التّراث، ويتساءل -الكاتب- هنا عن إمكانية التّجديد فعلاً من داخل التّراث بوسائله الخاصّة وإمكانياته الذّاتية، ثمّ ينفي إمكانية القيام بهذا العمل وذلك بالاستناد إلى ما يقوله الجابري عن التّراث، ليقول لاحقاً: “ربّما يكون مشروع الجابري الفكري أكثر مشروع أثار جدلاً ونقاشات لم تتوقّف حتّى الآن بسبب أهميته واتّساعه، وهذا أمر طبيعي، حيث رحّب بعضهم بهذا المشروع، في حين أنّ بعضهم الآخر نقده، وطعن في أسس المشروع كله بسبب ما رآه من ثغرات في مثل هذا المشروع الذي يتصدّى لمسألة خطرة جدّاً تمسّ حاضر الأمة ومستقبلها”.

ويرى الكاتب أنْ لا أحد خصّص هذا الكمّ الكبير من البحث والدّراسة والتّنقيب في ثنايا كتابات الجابري مثلما فعل المفكّر السّوري جورج طرابيشي الذي خصّص حوالي عشرين سنة لمناقشة نقد العقل العربي والرّدّ عليه، كما خصّص خمسة كتب من أجل هذا الرّدّ تحت عنوان “نقد نقد العقل العربي”، ويذكر -الكاتب- بعض ما أخذه طرابيشي على الجابري من خلال الاستشهاد بقوله: “إنّه يوظّف الإبيستموجيا في خدمة الأيديولوجيا، وهي أيديولوجيا متعصّبة لما يسمّيه بالعقلانية المغربية ضدّ اللاعقلانية المشرقية.. لكن أنا مدين للجابري، ولأعترف بذلك، فقد اضطرني إلى أن أُخضع نفسي قبل أن أُخضعه هو نفسه لمراجعة حساب شاملة”.

ويعرض السّيّد ردّ طرابيشي على كلام الجابري حول العقل المستقيل لدى المشرقيين، وهجومه على ابن سينا، واتّهامه بأنّه أكبر مكرّس للفكر الغيبي الظّلامي الخرافي، وبأنّ الفلسفة المشرقية السّينوية -كما يصفها- قتلت العقل والمنطق في الوعي العربي لقرون طويلة، يقول طرابيشي: “ما تشبّث ناقد العقل العربي قطّ بإزاحة فاعل من فَعَلة العقل العربي الإسلامي عن موقعه نسق معرفيّ للزّج به، على سبيل التّشهير، في نسق معرفي آخر، تشبثه بإزاحة ابن سينا من البرهان العقلاني إلى العرفان اللاعقلاني، وقد بلغ من ضراوة هذه الحملة التّشهيرية على ابن سينا، ما حملنا على أن نصفها، في موضع آخر بأنّها ذات طبيعة هذائية”.

وينتقل السّيد في الفصل الثّالث إلى الخطاب العربي المعاصر وعلاقته بالتّراث من وجهة نظر طرابيشي، يقول: “يحتلّ مكانة خاصّة في هذا المجال، وهو واحد من المفكّرين العرب الذين أعطوا قسماً كبيراً من حياتهم لدراسة التّراث، بعد أن انتقل بين تيارات فكرية عديدة، وقبل أن يتفرّغ للرّدّ على الجابري، ويكاد يتفرّد في استخدامه المنهج الفرويدي لتحليل خطاب التّراث بمختلف أشكاله، انطلاقاً من فكرة أنّ هذا الخطاب المعصوب لا يمكن أن يصدر عن ذات متوازنة”، مضيفاً: “ممّا لاشكّ فيه أنّ استخدام جورج طرابيشي للتّحليل النّفسي في قراءة خطابات المفكّرين العرب، ولاسيّما المتعلّقة بالتّراث في كتابه “المثقفون العرب والتّراث- التّحليل النّفسي لعصاب جماعي”، يستحقّ وقفةً مطوّلةً لأنّه يطرح قضايا مهمّة لا يمكن للإنسان العادي أن ينتبه إليها، لأنّها نابعة من عالم غير مرئي هو عالم اللاشعور الذي يعدّه فرويد المحرّك الأساس في الحياة بسبب الطّاقة الكبيرة الكامنة فيه، والتي تنتظر الفرصة للتّعبير عن نفسها، وتمثّل هذه الطّاقة الرّغبة المقموعة منذ مرحلة الطّفولة، والتي لم يتح لها الإشباع في مراحل الحياة المختلفة”.

ويعود بنا الدّكتور السّيد في خاتمة الكتاب إلى ما بدأ فيه، ويجيب باختصار على السّؤال الأوّل، يقول: “ربّما كان العقل العربي قابلاً لاستيعاب أفكار الحداثة والتّطور في بداية القرن العشرين، أكثر ممّا هي عليه الحال في بداية القرن الواحد والعشرين، تفاقمت المشكلات وأصبحت عصيّة على الحلّ، والفجوة بيننا وبين الغرب اتّسعت لأنّه يسير نحو المستقبل، ونحن نعود إلى الخلف، عصره الذّهبي أمامه، وعصرنا الذّهبي وراءنا نسعى للعودة إليه، مع ما يترّتب على ذلك من مخاطر على الأجيال القادمة.. لا يمكن للعقل العربي أن ينجز حداثته وهو مشدود إلى الماضي، وتجربة مئات القرون تثبت ذلك، ويبدو أنّ هناك مصلحة في استمرار الحال على ما هي عليه من التّخلّف والجهل لأنّ ذلك يخدم مصلحة فئة قليلة تريد المحافظة على هيمنتها.. ليس هناك أفضل من بيئة التّخلّف والجهل لاستمرار الهيمنة، ولهذا فإنّ علينا جميعاً تقع مسؤولية قول كلمة تخدم قضية الحداثة في مجتمعنا”.