“الأدب أو الذّهب؟!
وجيه حسن
يقول الكاتب الغربي “وليم ثاكيري”: “الأدب ليس شغلاً، ولا وظيفة، بل مُصِيبة وَبِيْلَة على صاحبه”!! ويقول لصديقله: “صديقي.. إنّ الأحذية السّود اللمّاعَة، والسّكاكين المَسْنُونة، والبدلات النّظيفة، تعمل كلّ شيءٍ، إلّا أنّها لا تخلقُ أديباً أوْ أدباً”!
عليه، فإنّ الكتابة الأدبيّة، لا تُطعم بوقتنا الرّاهن عنباً ولا زيتوناً ولا خبزاً، ولا تسدّ رقعة الثوب التي اتّسعت، فصارت مثل فم كلب البحر، أو عِجْلِه، خاصّة بهذه الأيام الماديّة الصّعبة والقاسِية علينا جميعاً..
ولا ريب في أنّ التكسّب عن طريق القلم، وحرفة الكتابة، عملٌ مثبّط للعزيمة، ماحِقٌ لدفقات النّشاط.. وهو عملٌ لا يدرّ الرّبح الوفير، ولا يسدّ الرّمق، في وقت صعدت فيه غيلان الأسعار الحارِقة إلى أسقفٍ جنونيّة، وإلى سلالم عالية، وبات الناس يبحثون عن لقمة العيش، نظيفة كانت أو غير نظيفة، يرتدي غالبيتهم لباساً من أكداس “البالة”، هم وأولادهم، أو يتوجّهون للسوق، يرومون غرامات قليلة من اللحم البقري، أو الدّيك الرّومي، أو لحم الفرّوج، أو وهم يبحثون لائبين عن قيمة فواتير الماء والكهرباء والهاتف و”النّت” الباهظة، ووحدات “الموبايل”!!
فكيف السّبيل الآمن للخروج من هذا الوضع الصّعب، خاصّة أنّ “قانون قيصر” الترامبي- الأمريكي الظالم، شَرَعَ صانعوه المجرمون يطبّقونه على وطننا السوري العزيز من أقصاه لأدناه على مراحل.. وقد لمسنا راهناً تأثيره في لقمة العيش، في ارتفاع أسعار المواد الضرورية والاستهلاكية عامّة، وكذا في شحّ مواد المازوت والبنزين والغاز، لأنّ قوى الغدر والاحتلال على مختلف مسمّياتها تسرقها جهاراً نهاراً، فماذا نحن فاعلون؟ وكيف تتجلّى صور التحديات بوجه مَنْ نسج وطبّق خيوط هذا القانون المُجْحِف، ضدّ بلدنا المقاوم، وشعبنا الصّبور الصّامد؟ وكيف يكون الردّ، أبالصّمت المُطبق، كأنّ على الرّؤوس الطّير؟ أم بالثرثرة الكلاميّة الفارغة، وعرض كثرة أو قلّة من المسلسلات التلفازيّة السّخيفة؟ أم ببثّ الأغاني الهابطة، والنّكات البائخة، والدّعابات البلهاء؟ أم ببثّ مباريات أجنبية لسباق سيّارات “الفورمولا”؟ أم للمصارعة الغربية -خاصة الأمريكية- على كذبها الفاضح، وعروضها السّاقطة المُركّبة؟ أم ببثّ الأفلام التركيّة الاستعراضيّة المُدبْلجَة ذات الحلقات المئة والمئتين، على سُخف قصصها، وفحاوِيها؟!
عوْد على بدء،
إذ لمّا قرّر الكاتب الأمريكي “ناثنائيل هاوثورن” تكريس حياته للأدب، كان يعلم بقرارة نفسه أنه حكم على مستقبله بالفقر والألم والإهمال.. وقد صرّح قائلاً: “ارسمُوا حروفاً ضخمة على الرّمل، تعمّقوا بكتابتها، ونَسْجِ حُبَيبْاتها، لكي تكون سِجلّاً خالداً لكم! فالسّاسة والعسكر والمثقفون والاقتصاديون والشّعراء وكتّاب القصص والروايات وصنّاع الأفلام، استنزفوا قُواهم لأجل قضيةٍ ليست خيراً من “الكتابة على الرّمل”..
وقديماً قال شاعر:
“قدِّر لِرِجْلِكَ قَبْلَ الخَطْوِ مَوْضِعَها فَمَنْ عَلَاْ زَلَقَاً عَنْ غِرَّةٍ زَلَجَا”:
“زَلَقاً”: المكان الأملس، لا تثبت عليه قدمٌ.. و”زَلَجَ”: زَلَق وانحدرَ..
* * *
على الضفّة الأخرى، هناك أرْباب الذّهب، من صنّاع مهرة، وتجّار وسطاء، وأصحاب محلات، وباعة الذّهب القديم المستعمَل، ويُطلق عليه: “الذّهب المكسور، أو الذّهب الخَشْر” ببعض المحافظات، وفي هذا تكمن أرباح أصحاب المهنة بالعادة، وكذا أرباح الأشخاص الذين يتعاملون به!.
ثمّ ألم يقلْ أحد الكتّاب الأدباء يوماً لأخيه: “يا أخي أنت تعمل بمجال الذّهب، وأنا أعمل بمجال الكتابة والأدب، فأيّنُا الرّابح الأكبر؟!”.
نظر “تاجر الذّهب” إلى وجه أخيه صاحب “حرفة الأدب” نظرة استخفاف، ابتسم، ليطلقها مدوّية: “لكَ الله يا أخي، كُنْ عاقلاً وواعياً، التفت إلى مهنةٍ أخرى غير مهنة الكتابة، التي لا تُورّث صاحبها إلّا قلّة ذات اليد، والفقر، والتّعْتِير، والعوز”.
ردّ أخوه صاحب “حرفة الأدب”: “أنا -حسب فلسفتي- أكافح في حربٍ معيّنة، حرب الرّوح الإنسانيّة، للتخلّص من أصفاد المجتمع ومادياته ونزواته وخزعبلاته، بينما تعيش أنت في عالم الغبش والغموض والأسرار والقلق، من بورصة ارتفاع سعر الذّهب أو انخفاضه، وملاحقة التّسعيرة والبورصة العالميّة لحظة بلحظة، وما يولّد ذلك كلّه من حَرْقٍ للأعصاب، ومن توتراتٍ ضاغطة، أنا شخصياً في غِنى عنها..
مادامت هذه نظرتك، ستبقى على فقرك مدى الحياة، حرّكْ دماغك، كنْ واقعيّاً، لا تعشْ على خريطة الأوهام!
ـ أنا أكتب للناس، لعقولهم، لفائدتهم، لأفئدتهم، والأديب الحقّ شعلة حيّة بأيّ مجتمع.. ومجتمعي المفضّل، ينحصر بملاقاة جَمْهرَة الكتّاب الأدباء، والمثقفين النّابهين، فهؤلاء إنْ وُجِدوا، (هُم ملحُ الأرض وذَهبُها ولؤلؤُها وفضّتُها وماؤُها وشمسُها بآن)..
* * *
عند الكلمة الأخيرة، توقّف الحوار بينهما، فقد دخلت المحلَّ امرأةٌ متفائلة، تريد أنْ تشتريَ لابنتها الصبيّة مصاغاً من الذّهب، على الرغم من الارتفاع الجنوني لثمن الغرام الواحد، الذي لم يعرفه مجتمعنا السّوري من قبلُ.