دراساتصحيفة البعث

وثائق صادمة تكشف أساليب ترحيل الفلسطينيين

ترجمة وإعداد: عناية ناصر

كشفت وثيقة صادمة كيفية انخراط الميليشيات الصهيونية خلال نكبة عام 1948 في حرب كيميائية وبيولوجية واسعة النطاق لطرد السكان الفلسطينيين من أراضيهم، وإبطاء تقدم الجيوش العربية، وتسميم مواطني الدول المجاورة.

كان هذا الاستخدام الشنيع وغير المعقول للأسلحة البيولوجية على أهداف مدنية بسرية تامة في ذلك الوقت، وكان الهدف منه هو محاولة نشر أمراض التيفوئيد والزحار والملاريا، وأمراض أخرى بين السكان الفلسطينيين عن طريق تلويث إمدادات المياه، محاطاً بالسرية و منسق في ذلك الوقت، حيث عملت دولة الكيان الصهيوني على إبقائه سراً لعقود بعد ذلك.

وحتى بعد انكشاف المسألة وفضحها، كان الذين ساعدوا في فضح القصة يجدون صعوبة في التقليل من أهميتها، مجادلين بشكل غير مقنع بأنها كانت استراتيجية فاشلة تم التخلي عنها على الفور ونسيانها نتيجة لذلك.

لكن أظهرت ملفات جيش الكيان الإسرائيلي التي رفعت عنها السرية مؤخراً وبشكل واضح أن هذه الرواية كانت كذبة مقيتة، كما أظهرت مبادرة  مركز “تاوب” للدراسات الإسرائيلية بجامعة نيويورك، والتي تم إصدارها بواسطة مشروع أرشيف المستوطنات اليهودية، بوضوح أن المحتلين الإسرائيليين استخدموا نفس التكتيكات من أجل إخلاء المناطق الفلسطينية لإفساح المجال أمام المستوطنات القادمة غير القانونية في الضفة الغربية، و في أماكن أخرى.

وقائع على الأرض

في عام 1967، عملت “إسرائيل” على ضم مساحات كبيرة من الأراضي المحيطة بها من أجل بناء مستوطنات للمستعمرين اليهود، وهو أمر كان ولا يزال غير قانوني بموجب القانون الدولي، وقد أدانته الأمم المتحدة مراراً وتكراراً. في البداية، زعمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أن المستوطنات كانت من عمل المستوطنين الأفراد، والكيانات غير الحكومية مثل الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية، وأصرت على أن دولة الكيان لا توافق على توسعها، كما أنها لا يمكنها منعه.

مرة أخرى، تظهر الوثائق التي تم إصدارها حديثاً، وبشكل واضح أن ذلك يعتبر خداع متعمد. لقد  بدأ هذا المسار في كانون الثاني 1971، عندما اجتمعت حكومة رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك غولدا مئير لمناقشة البناء المرتقب للمستوطنات، واعتبرت التزام السرية العامة المستمرة حول ما كان على وشك الحدوث أمراً بالغ الأهمية وفي بداية الاجتماع قالت رئيسة الوزراء: “قبل أن نمضي قدماً في مناقشتنا، هناك شيء أود أن أتحدث عنه. لقد كان من عادتنا بالنسبة لأي شيء يتعلق بالمستوطنات والبؤر الاستيطانية ومصادرة الأراضي وما إلى ذلك، أن نفعل ولا نتحدث عن ذلك، لكن مؤخراً، تغير ذلك، وأنا أطالب الوزراء من أجل “وطننا” التزام التكتم والسرية والقيام بكل ما في وسعهم. لكن الشيء الرئيسي هو عدم التحدث عن ذلك قدر الإمكان”.

كما وطالبت مئير الوزراء بتجنب الظهور على وسائل الإعلام في أي مكان بالقرب من المواقع.  في نيسان 1972، ظل الصمت هذا سارياً إلى حد كبير، حيث قام الوزير بدون حقيبة، يسرائيل جليلي، بتذكير أعضاء مجلس وزرائه خلال الاجتماع بـ “الامتناع عن الحديث عن الأمر في الصحافة، لأن ذلك قد يتسبب في ضرر”.

في هذا الوقت تقريباً، بدأ الإسرائيليون في بناء أول مستوطنة يهودية غير شرعية تحت مسمى “جيتيت” في الضفة الغربية.  لقد تطلب القيام بإطلاق المشروع الإجرامي هذا  تهجير الفلسطينيين من قرية عقربا المجاورة، وتم ذلك بداية عن طريق استخدام القوة الغاشمة، حيث طالب جنود الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء المنطقة لإفساح المجال لمنطقة تدريب عسكرية جديدة.

تجاهل الفلسطينيون المطالبات الإسرائيلية، واستمروا في زراعة أراضيهم، مما دفع قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى مصادرة أدواتهم والتخلص منها.  وعندما ظلوا متشبثين بأراضيهم ورفضوا مغادرتها، أُمر جيش الاحتلال الإسرائيلي باستخدام المركبات لتدمير المحاصيل، ونهب السكان الأصليي.  أوجد الجنود حلاً جذرياً تقشعر له الأبدان عن طريق استخدام طائرة لرش المحاصيل بمواد كيميائية سامة، وهي قاتلة للحيوانات وخطرة على البشر، وذلك من أجل تسريع رحيلهم.

ورغم كل ذلك، رفض سكان عقربا ترك أراضيهم، مما دفع الجيش الإسرائيلي إلى تصعيد حملته الشيطانية إلى حد كبير، حيث التقت القيادة المركزية للجيش في نيسان 1972 بممثلين عن دائرة المستوطنات في الوكالة اليهودية، وقاموا بتحديد المسؤوليات والجدول الزمني للرش بكثافة تمنع البشر من العيش في المنطقة لعدة أيام خوفاً من تسمم معوي لمدة أسبوع كامل.

تم تكليف الوكالة اليهودية بمهمة إحضار الطائرة، وهو ما فعلته بالتنسيق مع شركة محلية  تدعى “شمير”، وهي شركة محلية لرش غبار المحاصيل، وكان الهدف هو “تدمير حصاد” الفلسطينيين، وطردهم قسراً من المنطقة إلى الأبد.

في الشهر التالي، كان الدمار كبيراً ولا يحتمل لدرجة أن رئيس بلدية عقربا كتب إلى وزير الحرب موشيه ديان، وذكر بأن القرية كان فيها 4000 قاطن، وكانوا حتى وقت قريب يزرعون 145 ألف دونم من الأراضي الزراعية. والآن، بعد أن أحرقت سلطات الاحتلال القمح ومصادرة الأراضي، لم يتبق للفلسطينيين سوى 25 ألف دونم.

إلا أن ذلك الأمر لم يلق آذاناً صاغية لدى سلطات الاحتلال التي  قامت بالاستيلاء على الأرض في أيار 1973، وطلبت من تل أبيب السماح بالاستيلاء على الأرض بغرض إقامة مستوطنة، وتحقق ما أرادته، و بدأ البناء بعد ثلاثة أشهر.

تأمين غطاء لذلك

شجعت الحكومات الإسرائيلية سراً، وسهلت إنشاء مستوطنات غير قانونية ، ففي عام 1974، بدأ رئيس دائرة أراضي “إسرائيل” باتخاذ خطوات لإنشاء مستوطنة يهودية أخرى في الضفة الغربية وهي “معاليه أدوميم” قبل أن تتخذ الحكومة قراراً رسمياً بهذا الشأن. قاد الجنرال السابق في قوات الاحتلال الإسرائيلي، و النائب في  الكنيست مئير زارو حملة ضغط على الوكالة اليهودية لتخصيص الميزانية المناسبة لذلك، واقترح تحويل الأموال إلى النشاط الاستيطاني والحصول على الغطاء لذلك بعد فترة، عند المطالبة بالموافقة على الميزانية.

لكن في اجتماع مجلس الوزراء اللاحق، أعلن وزير الإسكان آنذاك، يهوشوا رابينوفيتز، أنه لا توجد ميزانية  لهذا المشروع، ولا أعرف كيف يتم بدء العمل في هذا المشروع دون الرجوع إلينا.حاول رئيس الوزراء إسحاق رابين تهدئته قائلاً: “إن هذا ما نجتمع بشأنه الآن”.

وفي وقت لاحق، ضغط يسرائيل غاليلي على الوزراء لتعريف ” معاليه أدوميم “على أنها “منطقة من الدرجة الأولى”، وبالتالي منحها وسكانها من المستوطنين اليهود مزايا أكبر من قبل الحكومة، على الرغم من حقيقة أنها تقع في منطقة محتلة بشكل غير قانوني. إن منح الحكومة الإسرائيلية رسمياً هذا التصنيف للمستوطنة من شأنه أن يرقى، بحكم التعريف، إلى مصادقة فعلية، بما يتعارض مع موقفها الرسمي العام.

وأوضح غاليلي: “أنا مندهش لأنك لا تفهم أن هذا الموضوع برمته هو أحد الأساليب البارعة للتخفيف من عملية يمكن أن تكون خطيرة للغاية داخلياً في إسرائيل”.

ظلت هذه الاتصالات المروعة سرية ومخفية لمدة نصف قرن قبل أن يُفرج عنها أرشيف المستوطنات اليهودية للعالم. يكاد يكون من الحتمي أن تظل العديد من وثائق الإدانة مخفية  وطي الكتمان في خزائن جيش الاحتلال الإسرائيلي.

لقد لاقت سرقة هذا القدر الكبير من الأرض وتشريد الكثير من الناس مقاومة محلية كبيرة، ولا تزال مستمرة حتى اليوم. ونظراً لفعالية الحرب الكيميائية والبيولوجية في سرقة الأراضي الفلسطينية على مدار سنوات عديدة، يمكن القول إن هذا النهج الشنيع قد تم استخدامه مراراً وتكراراً على مر السنين.