“البقاء للأصلح”.. مجرّد فكرة
وجيه حسن
“البقاء للأصلح”، مُجرّد فكرة، جالَتْ بخاطري، وأنا أجوسُ دروبَ الذاكرة، مطلقاً لها العنان، حول ما جرى – وما يجري – بواقعنا العربي، بخاصّة وطننا السوري المقاوِم – حيث الأحداث الإجرامية والدّموية العَمْياء، تسدّ على الجميع منْ الوطنيين الشّرفاءِ مجرى الفرح والتنفّس، لا تسمح لأوردة الوطن وشرايينه بأنْ تكون متلألئة من الداخل، تنعم بقطراتٍ من الانشراح والحُبُور، وشذراتٍ من الطمأنينة والسّرور، سوى ما يشعّ في الظلام القاهر من انبثاق بعضٍ من خيوط الفجر الخجولة، عابرة إشارات المرور، متوقّفة عند اللون الأحمر، كبقيّةِ خلقِ الله العقلاء، عندما تعترضهم إشارة حمْراء، فهم لا يتجاوزُون حدودَهم قيد أُنملة! بهذا السّياق، ماذا نقول في أولئك العُمْيان قادةِ العُمْيان، الذين داسُوا كلّ نورانيّة القيم والمبادىء و”الإشارات” والأخلاق و”الألوان”، لم يتبقّ بأدمغتهم السُّود الحاقدة، سوى لغة “التّحريق والتّقتيل، والتّدمير والتّهجير، والتّلغيم والتّفخيخ”؟!
أعودُ إلى قول: تلك الأبجدية العَصْماء، أعني “احترام حريات الآخرين”، تلقّينا حروفها المتوهّجة، ثقافتها العميقة منذ نعومة الأظفار، منْ إملاءات بيوتنا وأمّهاتنا وآبائنا، ثمّ ألمْ تعلّمنا مدارُسنا ومعاهدُنا وجامعاتنا وندواتنا وحواراتنا هذه الثّيمة العظيمة، وهذا المبدأ الرَّاسخ؟ هنا أنوّه بأنّ كمّاً ثخِيناً وسخيفاً من التفكير الظلامي الاستلابي المقيت، يحنّط بعضنا، يجعله يعيش حالة من الانحطاط الشخصي، والانفراغ الرّوحي، والخِواء الوطني، وهذه مجتمعة أو منفردة، لا أحد يَحسُدُ أصحابَها عليها البتّة!
“البقاء للأصلح”، قانون نورانيّ، لا بأس في أنْ يتجسّد حقيقة مُتجذّرة بأرضنا العربية، إذْ بوساطته ستختلف معايير التقويم، ستأخذ البوصلة سَمْتَها الصحيح، حينئذٍ، يتنفّس المرءُ الصّالحُ الصُّعداء، تظهر الكفاءات، ومعها الفروق الفردية، وتكون المنافسة شريفة، أبوابُها مشرعةً، لدخول الامتحان الصّعب، الذي يكون مثل غربالٍ مُعافَى، يفرز القمح الجيّد، من الزّؤانِ الخائِب، حالئذٍ، يصل كلُّ مواطِنٍ إلى غايته وحقّه برضاً تام، من دون تطاولٍ أو تجاوزٍ، أو محسوبيّاتٍ أو وساطات، يغدو قانعاً هانئاً، شاعراً بأنّه مواطِن موجودٌ، له كيانه الإنساني المحترم، فوق تراب وطنه، تحت سمائه، وضمن نسيجه الاجتماعيّ العام!.
“البقاء للأصلح”، قانونٌ عظيمٌ بمضامينه، ألمْ يردْ بمدوّنات علم الرياضيات “أنَّ أقرب مِسافة بين نقطتين: هو الخط المستقيم”؟ سؤالان مهمّان، مُفادُهُما: متى يصبح هذا القانون حقيقة ملموسة، يشعر بها المواطن أينما كان؛ مهما كان عمله الرّسمي العام، أو المهني الخاص؟ متى يُبعَث هذا “الطائر الميمون” منْ أدْراج النّسيان، وخزائن التّغاضِي، وأقفاص التّجاهل والغبار؟.
للذي لا يعرف، فإنّ قانون “البقاء للأصلح” مُنطلقُه فيما لو طُبِّق: الاعتزازُ بعافية الوطن، ودفْع عجلته للأمام، خوفاً على كيانه، وثقافته، ومؤسّساته، ومُوزاييكه الاجتماعي الجميل، من التشظّي والضَّياع.. وبزعْمِي، فإنَّ الأمّهات والآباء، والمعلّمين والمُربّين والأساتذة – بالمستويات التعليمية كلها- ورجال الدّين العُقلاء المُتنوّرين، و”رجالات العدل” النّظفاء، هم المعنيّون أوّلاً بتجسيد فَحْوَى هذا القانون، لأنّهم الأساس ببناء المجتمع، والرّكيزة الأمتن في معمار الوطن، وتسييج صرحه العالي، ودفع عجلاته قُدُمَاً.
“البقاء للأصلح”، قانونٌ نورانيٌّ، ينبغي أنْ تتطاولَ قامته، فقد صار مجتمعنا العربي السّوري بِمَسِيسِ الحاجة إليه، كي يندفعَ القاربُ للأمام، على الرغم من جبال التحدّيات، وهضاب العقوبات، وتلال المؤامرات المُفَوْلذَة.. وما يبعث على التّأسِّي، ويجرحُ عَصَبَ الرّوح، أنّ بعضاً من مواطني قطرنا العزيز، لا تزال عقولهم صَفِيقةً صلبة، كقشرةِ جوز الهند، غارقة في التحجّر والتكلّس والعَمَى، فَهُم ليسوا مقتنعِين حتى اللحظة بجدوى هذا القانون، وخلاصة مفاعيله، ونتائج ثمراته اليانِعَات!
“البقاء للأصْلح، للأفضل، للأنظف”، قانونٌ للحياة بِرُمّتها، تفرحُ به تربة الوطن، سماؤُه الطّهور، يسعدُ به ناسُهُ المُخلِصون الشُّرفاء.. فبوساطته، وبقوّة تطبيقه، تستعيد “سوريانا” الغالية عَبَقاً منْ مجدها التليد، وبقعة ضوء منْ تاريخها المجيد.
نعم، “البقاء للأصْلح، للأحْسن، للأحَقّ، للأجدَر”، من الكفاءات الوطنيّة، مشروعُ قانون، لم يُدرَسْ بعدُ بِأيٍّ منْ جلسات “مجلس الشعب”، لم تُعقَد لأجله أيّ ندوة حوارية، أو أيّ لقاءٍ مُتلفَز، ولم يصدر له مشروع قرار، ولا أيّ توصية.
إنّ أرْباب القلوب المريضة المُقفلة، لا تزال كَلِيلة وعاجزة، عن استيعاب فَحَاوَى هذا القانون الذّهبي، وتلقّف إيجابياته، لأنهم أجهلُ منْ أنْ يفكّروا بارتقاء وطنهم، وإعادة إعماره، وهمْ أغبَى منْ أنْ يستوْعِبُوا مضامينه الرّائعة، التي تمجّد الإنسانَ القدوة، الإنسان المُنتِج، الإنسانَ النّظيف، الإنسان العامل!.
نعم، المسؤولية الوطنية الصادقة، تدعونا طُرّاً، إلى الاهتمام بالإنسان الوطني الغيور، الباذِلِ عُصارة عقله وجهده ودمه وإبداعه وثقافته ووقته، ونظافة كفِّه وجيبه، لأجلِ بناءٍ حقيقيّ، لما هدّمته بـ”سوريانا الأمّ” أيادي الغدر السُّود، وما قام به أرْبابُ العقول المُسَفلتة، ذوو الأرْواح الشيطانيّة، المجبولة بطِين الإرهاب، ووحل التآمر، بِغفلةٍ منْ عينِ الزّمن، منْ قتلٍ وتدميرٍ، وتحريقٍ وتهجير.
ختاماً يقول الأديب الفلسطيني طلعت سقيرق:
الصُّورة الآنَ اندِياحُ الأفقِ في هذا الرَّدَى
الصُّورة الآنَ الصَّدَى
طُرُقاتُ قافِلَتِي خَرَاب
وَوجُوهُ أحْبَابِي غِياب
وَأقولُ آخ..
هذا زَمَانٌ جارِحٌ
هذا خَرَاب..!