ثقافةصحيفة البعث

شخصيات من روايات عالمية تغرد خارج سرب المجتمع وأقنعته

أمينة عباس

تنقّل الحضور بين شخصيات روائية عدة استحضرها المشاركون الدكتور نايف الياسين، والدكتور وائل بركات، والدكتورة ربا ياسين، والشاعرة إيمان موصلي بين الأدب الروائي العالمي في ندوة النادي الأدبي الثقافي التي عُقدت، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي بـ”أبو رمانة” بإشراف الدكتور راتب سكر وإدارة الأستاذة أريج بوادقجي تحت عنوان “شخصيات من روايات عالمية” وكان القاسم المشترك من قبيل المصادفة -كما أكد المشاركون- بين هذه الشخصيات عبثيتها التي عاشتها بأفكارها ونظرتها للحياة والتي وإن بدت غريبة على الحضور والقراء وتغرّد خارج سرب المجتمع وأقنعته التي لم تستهوِهم، لكن الحضور أعجب بها لأنها كانت شخصيات برع كتّابها في تقديمها بلا تعقيم وبعيداً عن المثالية التي ينأى القارئ عنها، وقد اختار الدكتور نايف الياسين إحدى شخصيات الشاعر الأميركي “تشارلز بوكاوسكي” في رواياته بالنظر إلى أنه ليس معروفاً للقارئ العربي كثيراً وهو الذي عاش بين عامي 1924 و1994 وقد وصفه “هنري ميتر” و”جان بول سارتر” و”جان جينيه” بأنه أحد أعظم شعراء أميركا، ورأى الياسين أن ما يميّز كتاباته الروائية أنه اتخذ في معظم أعماله بطلاً ثابتاً سمّاه “هنري شيناسكي” أو “هانك”، وكانت هذه الشخصية هي شخصية الكاتب بكل تفاصيلها وظروفها المعيشية، يقول: “شخصية هنري شيناسكي هي الشخصية البديلة المعدلة على نحو متفاوت بين رواية وأخرى من روايات بوكاوسكي، لكنها تظلّ قريبة جداً من شخصيته وتتمثل بعض سمات شخصية هنري شيناسكي كما جاء في رواياته “مكتب البريد”، و”النساء”، و”هوليود” وغيرها من حيث طفولة غير سعيدة ومعاملة قاسية من قبل الأب، ومشكلته التي لا نهاية لها مع حب الشباب والاستهلاك المفرط للكحول والعزلة والعلاقات المتقلبة وامّحاء الذات والعدمية وانتهاك الأعراف المجتمعية.. هو أناني سكير لا يقيم علاقات اجتماعية صحية عموماً لا مع الرجال ولا مع النساء ولا يبدي تعاطفاً مع الناس الآخرين”، ويبرر “شيناسكي” سلوكه كما جاء على لسان الياسين: “لم يتلقّ ما يكفي من الحب وهو طفل، وكردّ فعل على السنوات التي قضاها موظفاً صغيراً في مكتب بريد لا يحظى باهتمام النساء أراد أن يعوض بالاستمتاع بكل لحظة من حياته”، مشيراً إلى أن “بوكاوسكي” ليس فريداً في استعمال شخصية تمثله في كتاباته، فقد سبقه في ذلك “أرنست همنغواي” و”جيمس جويس” و”جاك كرواك”.
واختصر د. وائل بركات شخصية “مورسو” في رواية “الغريب” وهي أول رواية للكاتب الفرنسي “ألبير كامو”، وصدرت سنة 1942: “لم تكن السمات الشخصية لهذا الرجل البسيط قليل الكلام وغير المبالي قائمة دائماً على اعتبارات منطقية، ومع ذلك فإننا لا نحتاج للبحث عن عبثيتها، فهي مدركة بسهولة، وإذا كان للعبث نعمة كما يصف سارتر لوجب أن نقول إن مورسو يتمتع بها”، مبيناً أن عالم “مورسو” الداخلي والخارجي وتفكيره لا يوحي بالعقلانية، وهو غير منطقي في أفعاله وتصرفاته وردود أفعاله، فهو لا يعيش حياة العائلة، ولا ينتمي إلى المجموعة الاجتماعية، ولا يحترم تقاليدها ولا إيمانها، وهو شخص منفصل عن الواقع والمجتمع، تحرَّر من كل المشاعر الإنسانية، واتبع مبادئ خاصة به صاغها بنفسه أوصلته أخيراً إلى الإعدام نتيجة عدم مبالاته بمعايير المجتمع أكثر من اعتمادها على حيثيات قتله لشخصية معروفة باسم “العربي” ويحصر “مورسو” سبب جريمة القتل بأشعة الشمس التي سطعت على نصل سكين العربي وانعكست على وجهه وأفقدته الوعي فأطلق بصورة غريزية وتحت تأثير أشعتها الرصاصات عليه فأرداه قتيلاً، وهنا تتكشف عملية الحياة الإنسانية وعدميتها، ولم يضعف في أصعب اللحظات ولم يغير قناعاته وهو يواجه الموت المحتّم، في حين يلجأ الناس عادة إلى الله في مثل هذه الأوقات” ويصف بركات تركيبة شخصية مورسو بأنها شخصية حسية تهتمّ بالأشياء المرئية والمحسوسة ويكتفي باليومي وينصرف عن الكليّ ويعاني فشلاً في إدراك اللعبة الاجتماعية: “حين كان عليه أن يبكي أمام جثمان أمه رفض رؤيتها للمرة الأخيرة ولم يبالِ وأشعل سيكارته، وهذا السلوك هو ما أدى به إلى المحكمة وتبريره أنه فعل ما شعر بضرورة القيام به بعيداً عن متطلبات المجتمع وشروطه، لهذا لامتْه المحكمة والمجتمع معاً”، وأضاف بركات: “إنه غير مبالٍ، تتساوى عنده الأشياء الحب واللاحب، الاقتران بفتاة والبقاء وحيداً، الصداقة وغيابها، لا يعرف المحبة ولا الكره حيث يتساوى لديه النقيضان دائماً، الحياة والموت”، موضحاً أنه يصعب فهم إحساس الشخصية تجاه الأحداث التي تواجهها إلا بغير مفهوم اللامبالاة، فالعالم بالنسبة له ليس له معنى وعبثي ويرفض العودة إلى طريقة المجتمع في رؤية العالم، وليظل صادقاً مع نفسه يقبل الموت ويريد أن يموت أحمق بأي ثمن: “إنه رمز لعبثية العالم، والبطل العبثي يواجه عبثية الحياة بلامبالاة وكأنه انتحاري فقدَ معنى الحياة، لذلك قبل حكم المجتمع عليه بالموت في إحدى الساحات العامة، لتثير هذه الشخصية أسئلة لتحديد معالمها، غير أن الإجابة عنها لا تحسم موقفنا منها.. هل هي شخصية عدمية، بسيطة ساذجة طفولية أم هي شخصية متمردة حكيمة، معقدة، ذكية أدركت عبثية الحياة فرمتها وراء ظهرها؟ ربما تكون قوة الشخصية الروائية كامنة في عدم وصول القارئ إلى تحديد رأي واضح ونهائي تجاهها”.
أما د. ربا ياسين فتناولت في مشاركتها رواية “المسخ” أو “التَّحَوُّل” وهي رواية قصيرة كتبها الروائي الألماني “فرانز كافكا”، ونُشرت أول مرة عام 1915 ووصِفت بأنها إحدى الأعمال القليلة الرائعة، وإحدى أفضل أعمال الخيال الشعري المكتوبة في هذا القرن، مختارةً الحديث عن بطل الرواية “جريجور سامسا” الذي تحوّل إلى حشرة ضخمة ذات صباح، وكان عليه أن يتكيّف مع واقعه الجديد فأصبح وجوده في المنزل يشكّل عبئاً على أسرته التي تخلّت عنه بعد أن أصبح عديم الفائدة والقيمة بالنسبة لها فلفظه كل المجتمع من حوله، وأصبح منعزلاً في حجرته، يستمع من وراء الباب إلى حديث عائلته عنه بكل ما تحمله الكلمات من قسوة وظلم.. تقول ياسين: “يقدّم لنا كافكا نموذجاً مرعباً للكتابة الأدبية، ويسلك بنا مدخلاً سوداوياً للتعبير عن الذات وتناقضاتها النفسية والاجتماعية، وهو بذلك يقدّم لنا نوعية فريدة من السرد قائمة على فضح النفس البشرية وكشف حقيقتها المزيفة وعجزها الدائم والمستمر عن فعل أي شيء حيال مصيرها غير المعروف، ذاك المصير الذي رغم عدم معرفتنا به وبما يخبئه لنا من أحداث وصور غامضة فإن كافكا يخبرنا من خلال (مسخه) أن مصيرنا سيكون سوداوياً وعدميّاً ولا فائدة منه”.
وعلى الرغم من كل التحفظات على سلوك شخصية سكارليت في رواية “ذهب مع الريح” لـ”مارغريت ميتشل” وهي رواية عالميّة خالدة تحكي عن الحرب الأهلية التي وقعتْ أحداثها بين الشمال والجنوب الأميركي، لكن إيمان موصلي لم تخفِ إعجابها بهذه المرأة التي استطاع القارئ من خلال وصف البيئة التي ترعرعتْ فيها أن يكشف تفاصيل كثيرة عن تلك الحقبة التاريخيّة والأحداث المرافقة لها والتي ساهمت في تطوير شخصيتها، وهي فتاة تنحدر من أسرة غنية وكانت باهرة الجمال وجذابة وخفيفة الظل ولا تقوم بجهد كبير لتجذب انتباه من حولها من رجال يعشقونها وفتيات يشعرن بالغيرة منها، لكن الحرب فعلت ما فعلته، فانقلبت أحوال العائلة التي عاشت الفقر والحاجة واستطاعت “سكارليت” بما تتمتع من الجمال والذكاء أن تنجو نوعاً ما من تلك الأهوال بزيجات ثلاث أقدمتْ عليها لمصلحة شخصية، وقد كشف الفصل الثاني من الرواية عن الجانب الإنساني في شخصيتها وقدرتها على الفصل بين عواطفها وواجبها الإنساني وأخلاقها الكامنة في تصرّفاتها مع غيرها، لتكون أنموذجاً لامرأة تواجه تابوهات المجتمع بطريقة رشيقة وذكية تجاوزت العادات والتقاليد وتحدّتها بأسلوب ناعم تارةً ومتمرد تارة أخرى: “من يتعرف على شخصيتها يعجب بها بشدة ويشيد بنضالها الأنثوي الكبير ليس في تحدي المجتمع فقط، بل في ممارستها غير العادية في تحسين ظروف حياتها خلال الحرب، فهي امرأة لم تستسلم، وفي آخر مشهد من الرواية تمسك حفنة من تراب مدينتها لتقول جملتها الشهيرة: “غداً يوم آخر”.