كَمَنْ يبتغِي عَسَلاً منَ البَصَل!
وجيه حسن
يا سبحان الله، الدّنيا فيها العَجبُ العُجاب، فيها الأسود والأبيض، الصّادق والمِكذاب، الرّاشِي والمُرتشِي، والرّائِش بينهما، فيها القويّ، وفيها الضّعيف، فيها الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق، وبقية ألوان الطيف!.
ولدى جمهور الناس عامّةً، مَنْ هو أبيضُ السّريرة، ومَنْ هو أسودُ الطويّة، وهناك أناسٌ مجبولة نفوسُهم وأرواحُهم على الرّقة والعذوبة والاخضرار واليُنوعَة، وفئة أخرى منبوذة، لوّث اللونُ الأصفرُ قلوبهم، إذ وشّاها بِوَشْيِه، ولوّنها بحقده الفاقع المنبوذ، الذي يذكّرنا بلون النّار، والهشيم، والليمون، وصفرة أوراق الخريف، لذا يقولون باللهجة الدّارِجة، حين يقعون على شخصٍ أصفريٍّ لئيمٍ مقيت: “اللؤم ينزّ منْ عينيه، وأصابعه، ووجهه الليمونيّ، ومن أذنيه الصّفراوَين أيضاً”، لشدّة مقتهم له، وحنقهم عليه، ولسلوكياته الشّائنة، وتصرّفاته المُدانة!.
ومن الناس، مَنْ إذا جالسْتَهم ساعة، أو بعضها، مللْتهم، أثقلَ عليك حضورُهم ومنطوقُهم، وضرَعتَ إلى اللهِ العليِّ القدير، ترجوهُ داعِياً ألّا يجمعك بهم مرّة أخرى، لا بالدّنيا ولا في الآخرة.. ومنهم مَنْ تجالسهم دقائقَ، فتودّ منْ أعمق الأعماق، لو تجالسهم دهراً بطوله، “إلى أنْ يرِثَ اللهُ الأرضَ وَمَنْ عليها”، وما عليها.
كذلك شريحة الكتّاب والأدباء، أرْباب حرفة الكتابة والتّعب، فمنهم مَنْ إذا قرأتَ له قصيدة، أو قصة، أو طيفاً من الأطياف، أو مقالاً، أو كتاباً، أو عموداً، أو زاويةً، فكأنّك قرأتَ كلَّ ما كتبه، وما سيكتبه في القابل من الأيام.
أمثال هؤلاء يشبهون “كتّاب العرائض”، و”مُعَقّبِي المعاملات”، وأرباب “الزِّحافات والعِلل” ـ حسب قوانين “علم العروض”، الذي وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكنّا -نحنُ فئةَ القرّاء الواعِين المُتَيقظّين- نطلب، أو نأمل في كتابة هؤلاء، أنْ تمتلئَ فكراً وأدباً وثقافة وعاطفةً وصدقاً وَجَلاءً وقمحاً، في وقتٍ معاً، وألّا يضلّلوا قرّاءَهم، فيكون حالهم: “كَمَنْ يبتغِي عَسَلاً من البَصَل”!.
ومن الكتّاب والأدباء “الأفذاذ” كذلك، مَنْ نقرأ لهم مجموعاتٍ قصصيّة، أو روايات، أو كتاباتٍ شعرية، فلا يستوقفُنا فيها سوى قصّة أو قصتين، صفحة في رواية أو صفحتين، قصيدة في ديوانٍ أو قصيدتين، أو فلنقل: بضعة أبيات مُتناثرة، هنا وهناك، تبيّنُ رُتَقَاً جديدة، على أثوابٍ باليةٍ رَثّة! هؤلاء هم كتّابُ المُصادفات وشعراؤُها، إذْ ما يكتبونه، وما ترسمُه أقلامهم، وما تدبّجُه قرائحُهم، لَهُوَ بأعمِّهِ الأغلب، أشبَهُ ما يكون بـ”قبضة تِبْرٍ ذَهَبٍ.. في رَبْوةٍ منْ تُرابٍ”، على حدّ قول الكاتب اللبناني المرحوم ميخائيل نعيمة!
على الضفّة الأخرى، هناك كتّاب وأدباء ونقّاد، لا نقرأ لهم أسطراً معدودة، في مجموعةٍ، أو روايةٍ، أو كتابٍ نقديّ، أو.. أو.. حتى تستهوينا، وتستغوينا، لمواظبة القراءة ومُتابعتها بشوقٍ ورَغبة مشْهودَين، فترانا بلحظةٍ ما، وبعفويّة طاغية، ننقّل عيوننا على بقيّة الأسطر والصّفحات، مُستمتِعين بما تقرأ، مُلتذّين بما نطالع، كأنّنا ندخلُ قصْراً مُنيفاً، مُزنّراً بالورود والرّياحين، مزْرُوعاً بأنواع الزّهور، على مختلف الألوان، والرّوائح الشّذيّة العطِرة!.. هؤلاء وأمثالهم ومَنْ في مصافّهم، هم الكتّاب والشّعراء والأدباء الحقيقيون، الذين نطلبُهم، نريدُهم، لِنقرأ لهم، في كلّ وقت، وفي كلّ حين، الذين يكون في كتاباتهم أمْداءٌ وظلالٌ وأطيافٌ وأفكارٌ وعواطفُ وأقْماح، أمثال هؤلاء، هم الذين يُدخِلون السّرورَ والبهجة إلى ضِفاف نفسنا، وشغاف قلبنا، وأعماق عقلنا، ونحن نتلو أسطر الكتاب وأفكاره وجُمَلَه وحروفه وثِيماته المُونِقة، وأسلوبَه الشّائق المَاتِع، ولأنَّ هؤلاء، بالمقام الأوّل، وبالدّرجة الأولى، يحترمون القارئ أيّما احترام، يحاولون، ما وسعهم الجهد والموهبة، ملْء فضاءٍ منْ فراغه في قراءة ما هو مفيدٌ مُثمر، وهم يبتعدون بكليّتهم عن الكتابة الفارغة، التي لا تُسمن، ولا تُغني، وتلك التي لا تضيف إلى القارئ، إلا كلاماً بارداً، وباهظاً، وصقيعاً.
لتكنْ كتاباتنا -نحن أصحاب رُخص الأقلام- أقربَ إلى الواقع، إلى الحياة، تخترق ستائرَ القلوب، تنفذ بقوّة إلى أعماق الرّوح، تحفر فيها عميقاً، ألم يقلْ أحدهم: “الكلام النّابع من القلب، ساقطٌ أبداً في القلب”؟ وقِيل: “منطقُ القلبِ لا جِدال فيه”؟!.
استناداً إلى ما وردَ، علينا أنْ نقرّ معاً بأنَّ مصدر الكتابة هو الحياة، والحياة هي هي، أعني “الواقع المَعِيش”، بما يفرزه من مشكلات وحَيَوَات ومواقف وأنْبَاض، وأفراح وأتراح، وخسارات وأرباح، ومن تلاوين بشريّة، وعلاقات اجتماعيّة، ونجاحات وثقافات وسقطات، يصعب على المرء إحصاؤها، وتعداد وجوهها، في مقالٍ مُجتزَأ كهذا!.
ونحن أبناء اليابِسة، ينبغي -منْ دون تهيُّب أو مُداوَرَة- أنْ نقول: “ويلٌ لكاتبٍ لا يقرأ الناسُ بين سطورِه سُطوراً، وويلٌ لقارئ لا يقرأ منَ الكلامِ إلّا حُروفَه”، حسب قول الرّاحل نعيمة.
بِهاتِهِ المساحة المُتاحة أكتفي.. لألتحفَ ببطّانيّة التأمّل والصّبر ومتعة القراءة، إلى حين كتابة قضية أخرى من القضايا الحياتيّة المهمّة!.