العالم الحرّ الحقيقي
طلال ياسر الزعبي
لم يتورّع الغرب الجماعي لعقود طويلة عن استخدام مصطلحات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كلافتة لإلصاق اتهامات بدول العالم الأخرى على أمل ابتزازها ومصادرة قرارها السياسي وفرض هيمنته عليها، أو منعها بأيّ شكل من الأشكال من التطوّر والإمساك بأسباب القوة.
والشواهد على مثل هذه السياسة لا تعدّ ولا تحصى، حيث تم استهداف الكثير من الدول بهذه المصطلحات سواء في منطقة الشرق الأوسط كما حدث مع سورية والعراق وليبيا وغيرها، أم على مستوى العالم كالصين وروسيا وإيران وكوبا، وهذا النهج بالمحصلة يُراد من خلاله وضع الطرف الآخر (الخصم) في وضعية المتهم حتى لا يتمكّن مطلقاً من الدفاع عن سيادته، وبالتالي يتحوّل إلى مشهد المدافع بدلاً من المضيّ في تحقيق سياساته على المستويين الداخلي والخارجي.
وحتى وقت قريب، كان الغرب يتشدّق بحمايته لهذه القيم والمبادئ التي اتخذها أداة لتحقيق أهداف جيوسياسية على مستوى العالم، أما الآن فربّما فوجئ بأن هذه المصطلحات باتت تُستخدم ضدّه على نطاق واسع، والفارق أن “الخصم” تحرّر من فوبيا الغرب الجماعي إزاء الدول الأخرى، فهذه صربيا التي تعرّضت سابقاً لاستهداف من حلف شمال الأطلسي بعدوان مدمّر باستخدام هذه المصطلحات ضدّها، يخرج نائب رئيس وزرائها ألكسندر فولين، الذي كان يرأس وكالة الأمن والمعلومات، ليُعقّب على حادث مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، قائلاً: إن “زعماء العالم الحر في خطر”، بعد أن ربط بين الحادثة ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيتسو، وذلك لأن الزعيمين يمثلان حجر عثرة أمام هذا الغرب في تحقيق طموحاته في الهيمنة، فما كان منه إلا أن لجأ إلى أسلوب الاغتيالات للتخلص من هذا الحجر.
الغرب ذاته الذي تبجّح طويلاً بهذه المصطلحات لم يتمكّن من الردّ عليها بعد أن كانت حتى وقت قريب حكراً عليه، وعليه.. هل يمكن أن يكون هذا العجز تابعاً فقط لتورّط غربي في الحادثتين يخشى أن تُكتشف أصابعُه الخفية فيهما، أم أن هناك سبباً آخر يقف وراء ذلك؟
في الحقيقة، يبدو واضحاً أن الغرب الإمبريالي كان يملك القدرة على استخدام مثل هذه المصطلحات عندما كان يمتلك من القوة ما يساعده على فرضها أو فرض تبعاتها، أما الآن، وقد أُسقط في يده، فلم يعُد قادراً على فرض إرادته، لأن أكثر الدول من آسيا إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية خرجت من عباءته، ولم تعُد تقيم له وزناً، ليجد أن الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامه هي العودة إلى سياسة الاغتيالات التي تحقق بنظره إعاقة معيّنة لصعود الدول الأخرى، وهذه العودة طبعاً تؤكّد أن الغرب لم يعُد يمتلك ما يؤهّله لفرض إرادته على الآخرين، وبالتالي لم يعُد يهتمّ كثيراً بأن يصبح، وفقاً للعبارة السابقة، عدوّاً لزعماء العالم الحر، وأن يُظهر وجهه الحقيقي أمام العالم أجمع بأنه عدوّ لكل مفاهيم الديمقراطية والحريّات وحقوق الإنسان.
ومن هنا، ليس غريباً، مع شعور الغرب بتراجع دوره ومكانته، أن يجاهر علناً بعدائه للديموقراطية وحقوق الإنسان بمضمونهما الحقيقي، لأنه يعتقد أنْ ليس لديه ما يخسره أكثر من ذلك، بعد أن خسر هيمنته المطلقة على العالم، وهذا أقوى المؤشرات على ولادة نظام عالميّ جديد تحكمه أغلبية “العالم الحر الحقيقي”.