مَسْح
عبد الكريم النّاعم
أطلّ على الشارع، فشاهد امرأة تقدّمتْ بها السنوات، فبدَتْ حَفْنة من هيكل ضعيف، فردتْ كيساً فيه كسرات خبز يابسة.. أسندتْ ظهرها إلى الجدار، وراحتْ تقضمها ببطء، اندفع مسْرعاً باتجاه المطبخ، فأحضر بعض الأرغفة وما تيسّر، ممّا تسمح هذه الأيام بوجوده في بيوت أمثاله، ليقدّمه لها، فلم يجدها، فاساقطتْ دمعتان حارتان من عينيه، وأغمضهما ليلتبس عليه ما شاهده.. هل كانت امرأة مُدقعة، أم كانت أمّه الراحلة منذ أكثر من أربعين عاماً؟!!
****
حدّثه مَن يثق بكلامه أنّه، أثناء الازدحام للحصول على مادّة تُعتبَر من ضروريات الحياة، والتي لا يغيّر الحصول عليها الكثير، ولكنّ الكحل أفضل من العمى، كما يقول المثل.. أثناء ذلك، لسبب لا يعرفه، اندفع ثلاثة شبّان باتّجاه من تجاوز حدود الكهولة، وانهالوا عليه بالضرب بالأيدي وبقضبان الحديد، والناس ينظرون دون أن يتقدّم أحد لتخليص الرجل المضروب..
قفزتْ إلى ذهنه حادثة نُقلت من القاهرة، في تسعينيات القرن الماضي، فقد اندفع رجل كالجمل الهائج نحو امرأة، وأسقطها أرضاً، واغتصبها، والناس غير مُبالين، بل ظلّ كلّ واحد منهم سادراً في طريقه!!
تُرى!! متى كانت مجتمعاتنا على هذه الدرجة من اللاّمبالاة، وكأنّ ما يحدث لا يعنيها؟!! تُرى هل هو سيادة “أسألك يا ربّ نفسي”؟! أين النّجدة، ونُصرة المظلوم، والدفاع عن العرض، والغضب للكرامة المهدورة؟!! ما الذي أوصلنا ومجتمعاتنا إلى هذا الدّرك؟!! سؤال برسم المسؤولين، وعلماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وبرسم الأخلاق.. أوجّه السؤال وأنا أعلم مدى صعوبة الإجابة وإحراجها!!!
****
كانت تذهب إلى صيدليّة محدَّدة لشراء دواء شهري لا مناص منه، وكانت الصيدلانيّة ترتدي ما يُسمّى حجاباً شرعيّاً، وليس على وجهها ما اعتادت النساء على التجمّل به، بمعنى أنّها يمكن القول عنها إنّها “متديّنة!!”.. كانت تأخذ منها أربعين ألف ليرة سورية في كلّ مرّة، ثمناً لذلك الدواء، وذات مرّة ذهبتْ فوجدت الصيدليّة مُغلَقة، فتوجّهت إلى صيدليّة أخرى تقع في المنطقة ذاتها، وطلبتْ الدواء، فأحضرتْه الصيدلانيّة، وبشكل آليّ غير متعمَّد سألتْها عن الثمن، فأجابتْها ثمانية آلاف.. فوجئتْ، وعقدت الدهشة لسانها، فناولتْها الثمن شبه ذاهلة!!
تُرى كيف استحلّت تلك الصيدلانيّة الأولى أن تأخذ من لُقمة عيش الآخرين أضعاف ثمن ذلك الدّواء؟!!
يتساءل النّاس، فيما يتساءلون في هذه الأيام العصيبة في كلّ شيء: من أين جاءنا كلّ هذا البلاء، دون أن يتنبّهوا إلى أنّ دود الخَلّ منه وفيه؟
لقد جعل الله، سبحانه وتعالى، في شرائعه المٌنزَلة على أنبيائه علاقة الناس بعضهم ببعض أمراً تعبُّديّاً، فجاء على لسان الرسول (ص): “الخلقُ كلّهم عيالُ الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله”، فهل في علاقاتنا الاجتماعيّة ما يُترجم ذلك؟!!
لقد انهارت الأخلاق انهياراً مريعاً، وأصبحتْ المصالح الفرديّة صنماُ يُعبد!! حينما رُويت لي الحادثة قفزتْ إلى ذهني حكاية، نُقِلت على الفيسبوك، خلاصتها أنّ أحد الشبّان الذين هاجروا إلى بلد أوروبي كان يذهب إلى أحد المحال التي يبتاع منها بعض حاجاته. وذات مرّة، طلب من صاحبة المحلّ مادة كان قد ابتاعها من قبل، فقالت له:” لديّ سعران لهذه المادّة”، سألها: “هل ثمّة فرق بين هذه المادة وتلك”؟ فقالت: “لا.. ولكن المادة ارتفع سعرها من بلد المنشأ، وأنا لديّ منها كميّة قبْل ارتفاع ثمنها”، أجابها متفاصحا وناصحا: “لماذا لا تخلطين القديم بالحديث، وتبيعينه بالسعر الجديد، فيزداد ربحك”؟!! نظرتْ إليه باستنكار، واقتربتْ منه، وهمستْ في أذنه: “هل أنتَ حرامي؟!!”..
تُرى.. أية امرأة من الاثنتين كانت الأقرب لنفع العيال؟!!
aaalnaem@gmail.com