أي خطوط حمر.. يا توماس!
حسن حميد
تأخرت كثيراً يا صديقي!
كانت أسئلتك مئناس الوقت الحرون..
وكانت لهفتك، تعني لي شيئاً، وإن تقطّعت فيها السبل.
تسألني: ثم ماذا بعد، وهل صحيح أنّ حرباً قذرة، قذرة في كل شيء، افترشت الأيام والساعات والشهور الثمانية الماضية، لم تلامس بعد الخطوط الحمر!.
قلت: أحياناً يا توماس بالك، أيها المسرحي العارف بالأدب والفن، تكون الإجابة أشبه بالنجاة من فخ أو شرك، مع أنني أعرف الفخ ومكانه، والشرك ومواراته، مثلما أعرف النجاة ومعانيها! تسألني عن الخطوط الحمر التي يقول أهلك الغرب إنها لم تمسّ بعد، لأنّ الحرب على غزة والضفة الفلسطينية ما زالت تراعي أدبيات قوانين الحرب، مثلما تراعي أعراف القانون الدولي، وأنا أقول لك، مثلما قلت في المرات السابقة، إن ميادين هذه الحرب كثيرة، ومنها ميدان الحرب المشنونة على أهلي في البلاد الفلسطينية العزيزة، بالوحشية المطلقة، ومنها أيضاً ميدان اللامبالاة بكل ما يجري تحت القناعة الغربية المطلقة بأن الكيان الإسرائيلي له الحق في الدفاع عن نفسه!.
ومن هذه الميادين أيضاً، ميدان بشع قبيح هو ميدان الكذب، ومن هذا الكذب هذه المقولة، بأنّ الخطوط الحمر.. لم تمسّ بعد في الحرب الإسرائيلية الفظيعة على قطاع غزة والضفة الفلسطينية! كيف هذا، يا توماس، كيف يتجرؤون على كذب مفضوح.. و75% من عمران قطاع غزة أصبح دماراً وخراباً وجبالاً من النفايات والأوبئة، وكل المستشفيات الكبيرة والصغيرة باتت خارج الخدمة، ولا تقدّم أي مساعدة، مهما صغر شأنها، لجريح أو مصاب لأنها دمرت، والجامعات والمدارس ودور العبادة والأسواق والمراكز التعليمية والثقافية كلها دمرت جزئياً أو كلياً، وآبار الشرب وخزانات المياه وقساطل جرّ المياه، وقساطل جرّ المياه المالحة، كلها دمرت، ومراكز وكالة الغوث الدولية، وفيها مستودعات للأدوية والأغذية والأغطية والأدوات الخاصة بالمشافي والمدارس والمعاهد المهنية، كلها سُحقت عن عمد وسابق تخطيط وإصرار، والبحر منع الناس الذين يجاورونه من زمن آدم عليه السلام، من الوصول إليه ليأكلوا مما فيه، والطرق والدروب كلها قطّعت بالحواجز، ومن تجاسر على المشي فيها، راكباً أو راجلاً، قتل، ومن لم يُدفن، أكلته الطيور والكلاب ووحوش البر، وكل ما له علاقة بالتراث من العمائر إلى المصكوكات إلى الكتب والوثائق إلى الأحجار الكريمة إلى الرخام والجرار والزجاج.. دمروه وخربوه، ولو استطاع الجنود الإسرائيليون الوصول إليه لسرقوه ونهبوه وتستروا عليه، و20 ألف طفل قتلوا، ومعظمهم تلاميذ في المدارس، و12 ألف امرأة قتلت، بعضهن كن حوامل، مليون ونصف المليون هجّروا من شمال غزة إلى وسطها ثم إلى جنوبها مرات، ثم طلب إليهم بالأوامر التي ترميها الطائرات أن يعودوا إلى الوسط والشمال، وفي الحالين كانوا يقتلون ويدفنون في مقابر جديدة قرب الطرق، أما المقابر، يا توماس، فنبشت قبورها بوساطة الجرافات الإسرائيلية، ولا أحد يعلم لأي سبب تنبش القبور، المشافي، وأهمها مشفى الشفاء في مدينة غزة، مساحته هائلة وعياداته كثيرة، واختصاصات المعالجة فيه متعدّدة.. صار أثراً بعد عين، أعني ما عاد موجوداً، فقد طردوا الجرحى والمرضى، والكوادر الطبية، ثم حرقوه، أتسمعني يا توماس بالك، حرقوه غرفة غرفة، ومتراً متراً، ثم جرّفوه بالجرافات العسكرية، مشفى الشفاء كان مكاناً للاستشفاء والطمأنينة والرجاء، الآن جعلته الهمجية الإسرائيلية مكاناً لمحرقة طالت الحجر والبشر والأشجار والأعشاب وقبور من دفنوا في حدائقه، إنه الآن، مساحة هائلة من الرماد المخيف، والناس، يا توماس، ما زالوا يموتون بألف طريقة وطريقة، يموتون بقصف الطائرات والمدفعية، فتخرّ السقوف فوقهم ليلاً ونهاراً يلاقيهم الرصاص، وهم في رحلة البحث العبثي عن الطعام، فيموتون، تلحق بهم الطائرات، وهم يمشون، أو وهم يركبون الدراجات الهوائية أو عربات الكارو فيموتون في الطرق والدروب، ومعظمهم لا يدفنون، تأكلهم الوحوش والكلاب والقطط والطيور الجارحة، بعضهم يقتربون من البحر لعلهم يظفرون بالسمك، فيصيرون دريئات لرصاص قوات البحر الإسرائيلية، فيموتون، وتصير قبورهم متحركة متلاطمة ما بين الأمواج والصخور، بعضهم يتخيّرون من الأخبار أقلها وحشية للفضائيات، لكنهم بغتة يموتون، أكثر من 451 فرداً من العاملين في الإعلام ماتوا، ومثلهم في العدد، خرجوا من الخدمة لأن جروحهم وإعاقاتهم حالت بينهم وبين تأدية عملهم، أكثر من 200 أستاذ أكاديمي، يدرّسون في الجامعات، ماتوا في قصف لجامعاتهم، وفي الطرقات، وتحت سقوف بيوتهم، وفي الخيام التي عادت وصارت بيوتاً لأهل غزة، لقد مات قسم منهم خارج جامعاتهم التي دمرت وحرقت وجرّفت، كل المعابر التي من البديهي أن تمرّ عبرها الأغذية والأدوية والمحروقات واحتياجات الناس أغلقت طوال الشهور الثمانية الماضية، والشاحنات الكبيرة وهي بأعداد هائلة، تقف خلف المعابر من أجل الدخول إلى قطاع غزة، لكنها لا تدخل لأنّ الإسرائيليين يمنعونها ويهدّدونها بالحرق والتدمير، وكل ما في هذه الشاحنات من أدوية وأغذية واحتياجات إنسانية فسد بسبب حرارة الشمس ودوّد!.
يا توماس، ضاق صدري بأنفاسي، وامتلأت عيناي بالدموع، وأخذت الرجفة أصابعي وقلمي وورقي، فلماذا أعدّد، ولماذا أبوح، ولماذا أكاشفك بما يحدث، وأنت مثلي لا حول لك ولا قوة، وعذري أن سؤالك حول الخطوط الحمر التي يقول الأمريكان إنها لم تمسّ بعد، هو الذي جعلني أقول ما قلت، ما يحدث، يا صديقي العزيز، فيلم غربي، أداته إسرائيلية، وغايته الجهر بأن أهل الغرب بلا قلوب بلا ضمائر، ثم يتحدثون، وهنا السخرية، عن القانون الدولي وأخلاقيات الحرب.
توماس، سامحني، أودّ أن أسألك: هؤلاء الناس الذين يخرجون في تظاهرات في مدنكم أليسوا بشراً، ألا تسمعون أصواتهم المنادية بوقف الحرب على غزة، وإن كنتم لا تسمعونهم، ألا ترون اليافطات التي يرفعونها وما ألصقوه عليها من صور رهيبة، وما تودّ الإشارة إليه، ثم طلاب جامعاتكم، أليسوا أبناءكم، أليسوا هم المستقبل الذي تنشدونه، ألا ترونهم وقد هجروا بيوتهم، وناموا في الخيام داخل أروقة الجامعات وحدائقها، ألا تسمعون ما يجهرون به، ألا تسألون لماذا يحتجزهم أفراد الشرطة، ولماذا يعتقلون في السجون؟.
القلبُ يبكي، يا توماس، مثلما هي الأمكنة تبكي، مع ذلك، مرحباً بأسئلتك، وأرجوك، أخبر طفليك، جاك وهيلين، على الأقل، بما يحدث في بلادنا العزيزة.
Hasanhamid55@yahoo.com