اكتشاف لما يُشبه القارة.. إندونيسيا بين الحضارة والتاريخ القديم
جاكرتا- علي اليوسف
عندما تزور إندونيسيا تشعر في كل مكان وكأنك في منزل ريفي تطلّ على تلال وجبال وسواحل وشواطئ رملية وحقول الأرز الخصبة والمنحدرات البركانية. إن مجرد الزيارة إلى إندونيسيا ليس لأنها دولة نابضة بالحياة فحسب، وإنما هي اكتشاف لما يُشبه القارة، لما تحتويه من ثقافة وفنون.
الرحلة التي امتدت على مدى عشرة أيام كانت غير كافية لاستيعاب كل جوانب الحياة في إندونيسيا، لكنها على الأقل تعطي انطباعاً عما تكتنزه هذه الدولة التي تضمّ أرخبيلاً يحوي أكثر من ثلاثة عشر ألف جزيرة بركانية مجاورة لبعضها، كل جزيرة عالم قائم بذاته يعجّ بمجموعات بشرية مختلفة الأجناس والثقافات، تتحدث نحو 300 لغة، لكنها تتوحد في لغة البلد الرسمية، وهذا ما يجعل اللوحة الفسيفسائية في إندونيسيا فانتازيا تعكس مراياه الداخلية ألواناً وأشكالاً تأخذك إلى عالم آخر.
عاصمة العمارة الحديثة
منذ وصولنا إلى جاكرتا لاحظنا مباشرة أن العاصمة ككل عواصم العالم تتسم بالفوضى والازدحام، لكنها ذات طابع عالمي متميّز، فهي مدينة المتناقضات، يرتادها ملايين الأشخاص من جميع أنحاء العالم، لذا فهي تقدّم مزيجاً من اللغات والثقافات المختلفة، كما أنها تجمع بين الفقر والغنى في آن واحد.
تعدّ جاكرتا واحدة من أجمل المدن السياحية، حيث يلتقي فيها سحر الطبيعة بروعة الهياكل المعمارية ذات الهندسة المتطورة والجميلة، يرجع تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي وتقع في المنطقة الغربية التابعة لجزيرة جاوة. تمتد جاكرتا على مساحة 661 كيلو متراً وهي المدخل الأساسي إلى إندونيسيا.
المتحف الوطني
المتحف الوطني هو متحف أثري وتاريخي وإثنولوجي وجغرافي يقع في جالان ميدان ميرديكا بارات، وسط مدينة جاكرتا، على الجانب الغربي من ساحة مرديكا، وتغطي مجموعاته الواسعة جميع أراضي إندونيسيا وتقريباً كل تاريخها. وقد سعى المتحف للحفاظ على التراث الإندونيسي لمدة قرنين من الزمان. افتتح المتحف رسمياً في عام 1868 باسم غيدونغ غاجاه (بناء الفيل)، بسبب تمثال الفيل البرونزي في الفناء الأمامي.
يحتوي المتحف الوطني على مجموعات غنية من التحف الهندوسية البوذية من إندونيسيا القديمة، ويوجد أيضاً في المتحف مجموعة كبيرة من القطع الأثرية من ما قبل التاريخ والأنثروبولوجية من جميع أنحاء إندونيسيا وآسيا، حيث تمّ جمع المنحوتات والبوابات والنقوش الهندوسية البوذية من جاوة وبالي وسومطرة وبورنيو.
كما يضمّ المتحف مجموعة كبيرة وكاملة من الخزف الصيني القديم، فهو لديه واحدة من الأفضل والأكثر اكتمالاً من بين مجموعات الخزف الصيني التي اكتشف خارج الصين. الخزف يعود تاريخه من هان، تانغ، سونغ، يوان، مينغ، وتشينغ، وهي سلالة تمتد لمدة ما يقرب من ألفي سنة.
هذه المجموعة الخاصة تعطي نظرة للتجارة البحرية في إندونيسيا على مرّ القرون، حيث تشير الأبحاث إلى أن الصينيين أبحروا إلى الهند عبر إندونيسيا في وقت مبكر من فترة هان الغربية (205 قبل الميلاد إلى 220 ميلادي) كجزء من طريق الحرير البحري.
يوجياكارتا.. قصر السلطان
تمّ بناء مجمع القصر في الفترة ما بين 1755-1756، بقيادة المهندس المعماري الرئيسي السلطان هامينجكوبوونو الأول (الملك الأول) الذي أسّس سلطنة يوجياكارتا. يقع قصر السلطان داخل منطقة السلطان، كما يوجد داخله مواقع أخرى، القلعة المائية، ومتحف عربة الخيول الملكية، ومسجد القصر الكبير، وما إلى ذلك.
يعدّ القصر الضخم في يوجيا القلب الثقافي والسياسي لهذه المدينة المسورة، فهذا المجمع من الأجنحة والمساكن يسكنه نحو 25000 شخص، ويضمّ سوقاً ومتاجر وصناعات منزلية ومدارس ومساجد، وهناك نحو 1000 من السكان يعملون لدى السلطان المقيم.
يتألف القصر من سلسلة من القاعات الفاخرة والأفنية الفسيحة والأجنحة، مع زخارف مثل الزجاج الملون المتأثر بالهولندية، والذي أضيف في عشرينيات القرن العشرين. كانت هناك في الأصل مداخل منفصلة إلى القصر للرجال والنساء، وتتميّز بوجود تنانين عملاقة من الذكور والإناث. يحضر القصر خدم كبار السن يرتدون الزي الجاوي التقليدي، لكن المجمع الأعمق محظور حيث لا يزال السلطان الحالي يقيم هناك.
في وسط القصر توجد قاعة الاستقبال (الجناح الذهبي) بأرضيته الرخامية، وسقفه المزخرف، ونوافذه ذات الزجاج الملون، وأعمدة من خشب الساج المنحوت لاستقبال كبار الشخصيات الأجنبية. حتى أن بعض الهدايا من بعض هؤلاء الزوار الكبار، بما في ذلك الملكية الأوروبية، موجودة في متحفين صغيرين في مجمع الفناء نفسه، تشمل المعروضات نسخاً مذهبة من البوساكا المقدسة (موروثات العائلة المالكة) وأدوات غاميلان وشجرة العائلة المالكة والصور الفوتوغرافية القديمة لحفلات الزفاف الجماعية الكبرى وصور سلاطين يوجيا السابقين.
معابد الهندوس
أما معابد الهندوس فهي من عجائب العمارة الهندوسية في إندونيسيا، وأهمها معبد برامبانان، ويقع في يوجياكارتا، جاوة الوسطى. هذا المعبد هو أحد معالم التراث الثقافي العالمي المعترف به من قبل اليونسكو، وهو واحد من الوجهات السياحية الأكثر شعبية في إندونيسيا.
تمّ بناء معبد برامبانان في القرن التاسع الميلادي في عهد راكاي بوندان من مملكة ماتارام القديمة بتقنيات معمارية هندوسية يعتقد أن الكهنة الهندوس من الهند هم الذين رسموها. ويتكون معبد برامبانان من 8 معابد رئيسية يحيط بها 250 معبداً صغيراً. يعمل المعبد الرئيسي كمكان للعبادة للآلهة الهندوسية، في حين يتمّ استخدام المعبد الصغير كمقر للكهنة الهندوس. ويتكون المعبد الرئيسي من ثلاث مجموعات، وهي مجموعات شيفا وبراهما وفيشنو. تتكوّن مجموعة شيفا من 3 معابد رئيسية ومعبدين مصاحبين يرمزان إلى الجبال المقدسة في الهند، يبلغ ارتفاع معبد شيفا الرئيسي 47 متراً، ويعتبر أعلى معبد في جنوب شرق آسيا.
تتكون مجموعة براهما من معبد رئيسي واحد و4 معابد مصاحبة، كما تتكون مجموعة فيشنو من 4 معابد رئيسية و4 معابد مصاحبة ترمز إلى قوة اللورد فيشنو.
جميع مباني معبد برامبانان مصنوعة من حجر الأنديسايت ومزينة بنقوش توضح قصة رامايانا وماهابهاراتا.
أما معبد بوروبودور فهو أحد عجائب العالم الواقعة في منطقة ماجلانج، جاوة الوسطى. يتميز هذا المعبد البوذي بهندسة معمارية مذهلة وتاريخية، وتعترف به اليونسكو كموقع للتراث العالمي. تم بناء معبد بوروبودور في القرن الثامن الميلادي من قبل البجع الحاكم في جاوة الوسطى. ومع ذلك، تم بناء هذا المعبد لإحياء ذكرى كمال بوذا والطريق إلى السكينة. في ذلك الوقت، تم بناء المعبد من خلال نحت أحجار الأنديسايت والغرانيت، بحيث أصبح بوروبودور أحد أكبر المباني التي تمّ إنشاؤها في ذلك الوقت.
بالي.. أرض الآلهة
جزيرة بالي في الشمال الغربي للمحيط الهندي (غرب جزيرة جاوة)، وهي الجزيرة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في إندونيسيا، وعاصمتها دينباسار. تقتصر هذه الجزيرة على جزر جافا ولومبوك في الشمال، وجزر نوسا تينجارا ونوسا بينيدا في الشرق، وبحر جاوة وبحر بالي في الغرب، ولغة الشعب البالي هي اللغة الأم لبالي والتي تسمّى “باسا بالي”.
إن ثقافة شعب بالي غنية ومتعدّدة وتتضمن مزيجاً من البوذية والهندوسية. ومن السمات البارزة للثقافة البالية الاحتفالات الدينية والتقليدية المعروفة باسم Kongkeb التي ظهرت على مر القرون، وتم الاعتراف بها كجزء من تاريخ وثقافة بالي.
من السهل أن تجد في بالي تلاقياً بين معابدها التي تعود لـ500 عام والفنادق الحديثة التي تمّ بناؤها مؤخراً، حيث يمكنك أن ترى الأثر التاريخي والحضاري جنباً إلى جنب مع التطور الحديث.
من جاكرتا إلى كاليمانتان
أخيراً يجب ألا ننسى أن إندونيسيا عُرفت عند العرب بعد الإسلام، وأطلقوا عليها تسمية “جزر المهراج” وجزر “الجاوي”، وعرفت في فترة الاحتلال الهولندي بـ”جزر الهند الشرقية”، قبل أن تسمّى في منتصف القرن الـ19 باسمها المتعارف عليه حالياً إندونيسيا، المتكوّن من مقطعين “إندو” وتعني الهند و”نيسيا” التي تعني الجزر، لتصبح “جزر الهند”، حيث تمتد على طول أرخبيل كبير يتكوّن من 13677 جزيرة، منها 6044 مأهولة بالسّكان، منتشرة على طول المحيطين الهندي والهادئ بمساحة تبلغ نحو 2 مليون كلم مربع، غالبيتهم من عرقية الملايو، جلّهم مسلمون بنسبة 86%، فيما يبلغ تعداد المسيحيّين نحو 10%، ويتركّز 60% من السكان على جزيرة جاوة، التي تبلغ مساحتها 131500 كلم مربع، وتوجد فيها عاصمة البلاد جاكرتا، ولغة البلاد الرّسمية هي “باجاسا إندونيسيا”، وتحتوي على كثير من الكلمات العربية، وهي فرع من اللغة الملاوية، وسط 300 لهجة ولغة محلية.
واليوم تبني إندونيسيا عاصمة جديدة للبلاد، وفي هذا المنحى أعلن الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو في آب 2019، عن خطة لإصلاح العاصمة تبدأ من الصفر، حيث اقترح تجريد جاكرتا من صفتها كعاصمة للبلاد، وقرّر بناء عاصمة جديدة، وبموجب خطته، فإن الشخصيات السياسية والعاملين بالحكومة سيغادرون المدينة الغارقة في مياه جزيرة جاوة، وسينتقلون إلى جزيرة “بورنيو” الأقل ازدحاماً، حيث حدّدت التكلفة الأولية لبناء العاصمة الجديدة بـ33 مليار دولار.
وتشتهر جزيرة “بورنيو” بغاباتها الكثيفة المليئة بالنخيل الذي تستخرج منه الزيوت، وسيتم بناء العاصمة الجديدة في مقاطعة “كاليمانتان” الشرقية بالقرب من مدن “باليكبابان” و”ساماريندا” الساحلية، حيث تملك الحكومة نحو 178.062 كيلومتراً مربعاً.
وسيتوسّط العاصمة التي حدّد مكانها الرئيس الإندونيسي الأرخبيل المكون من 17 ألف جزيرة، ويمتد على نحو 5000 كيلومتر من أطرافه الغربية إلى الشرقية، وتتقاسم كل من ماليزيا، وبروناي مع إندونيسيا سيادة هذه الجزيرة.
واستعملت في بناء العاصمة الجديدة تقنيات حديثة تجعل منها آمنة من خطر التسونامي والزلازل والفيضانات، كما أنها ستخفف الضغط على جاكارتا، التي يقطنها 60% من سكان البلاد (نحو 170 مليون نسمة)، حيث سيكون تدشين هذه المدينة الكبرى على بعد أكثر من ألف كيلومتر من جاكارتا، توزيعاً عادلاً للتنمية والثروات، كما تشير خطة جوكو ويدودو، إلى أنه لن يتمّ استخدام الوقود الأحفوري في المدينة الجديدة، حيث ستعتمد بالأساس على “الاقتصاد الأخضر”، ومن المقرّر البدء في الانتقال إلى العاصمة الجديدة في 2024.