المهربات تكشف عجز المعالجات الاقتصادية..!!
علي عبود
تنتشرُ المهرّبات في كلّ مكان داخل الأسواق وعلى مواقع التسويق الإلكترونية، وهي مثال على عجز المعالجات الاقتصادية التي تركّز على رفع أسعار مستلزمات الإنتاج والاستيراد النظامي، بدلاً من تسهيل دوران عجلات الصناعة المحلية، وعمل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر.
ولقد ثبت بالتجارب السابقة أنه مهما اشتدّت العقوبات، ومهما زادت الغرامات، ومهما توسّعت مراقبة منافذ الحدود ودائرة حملات المداهمة، سواء على الطرقات أو داخل المدن والأسواق، فإن التهريب سيستمر طالما هناك غياب أو نقص كبير في السلع والمواد بشقيها الأساسي والكمالي، أو أن أسعار المتوفر منها أعلى بكثير من مثيلاتها المهرّبة.
لقد كشفت مديرية الجمارك عن زيادة في قضايا التهريب من 1202 قضية خلال الربع الأول من عام 2023 إلى 1963 قضية خلال الربع الأول من العام 2024 أي بزيادة 761 قضية، وهذا الارتفاع مؤشر على أن اللجنة الاقتصادية لم تعالج آفة التهريب التي تشفط المليارات من البلاد بقرارات اقتصادية، وكأنّها تقول إن مهمّة اجتثاث التهريب تقع على عاتق الجمارك، أي بآليات قمعية وليس بآليات اقتصادية!.
والجانب الأخطر والذي يؤكد استمرار التهريب بالنخر في اقتصادنا الوطني وإضعاف سعر الصرف هي الكميات الكبيرة من المهرّبات التي لا يمكن مصادرتها لأسباب، إما ذاتية أي بفعل التواطؤ بين مافيات التهريب وفاسدين في المراكز والمواقع المسؤولة، أو بنقص في إمكانيات وآليات المكافحة، وهذا الأمر لا يقتصر على سورية فقط، بل هو حالة سائدة في كلّ دولة تنتشر فيها المهرّبات بنسب متفاوتة.
قد لا يتذكر الكثيرون أسواق المهرّبات في كلّ المدن السورية في ثمانينيات القرن الماضي، وكانت أسواقاً كبيرة تعرضُ سلعها في عزّ النهار، أي على مرأى من الجمارك التي عجزت عن اجتثاثها أو منع فتحها نهاراً على الأقل، ولم تختفِ تلك الأسواق إلا بقرارات وتشريعات اقتصادية من خلال عنوانين: التصنيع المحلي والاستيراد النظامي.
وها نحنُ نشاهد توسعاً تدريجياً في انتشار المهرّبات في كلّ مكان ليس على الطرقات العامة فقط، وإنما داخل المدن والأسواق أيضاً، وهي مرشحة للانتشار أكثر فأكثر، طالما الحكومة منشغلة برفع حوامل الطاقة ومستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي والتضييق على المستوردات، وطالما لم تقتنع أن المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر هي الحلّ لتأمين مستلزمات الناس من السلع بأسعار منافسة، وبتصدير كميات كبيرة منها مدرّة للقطع الأجنبي أيضاً.. إلخ.
لقد كشفت مديرية الجمارك أن 40% من قضايا التهريب تمّ ضبطها داخل المدن، والسؤال: كيف عبرت هذه النسبة الكبيرة من منافذ الحدود إلى عقر الأسواق والمحال التجارية؟.. أما السؤال الأكثر إحراجاً: ما آليات ضبط المهرّبات التي تباع جهاراً عبر الإنترنت؟
لسنا مع التبريرات التي تكرّرها الجهات المسؤولة عن مكافحة التهريب، فهي نفسها منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولا يمكن اجتثاث التهريب، أو إعادته إلى الحدّ الأدنى غير المؤثّر في الاقتصاد من خلال تكثيف التواجد في المنافذ الحدودية والتحريات والمتابعة الجمركية، ولا على الطرقات ومداخل المدن.. إلخ، كلها إجراءات غير فعّالة إن لم ترافقها إجراءات اقتصادية تؤسّس لصناعة وطنية منافسة، ودعم ملموس لإنتاج بدائل المهرّبات والمستوردات، وفي مقدّمتها دعم المشاريع المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر.
الخلاصة: لا يكفي أن تقوم وزارة المالية بتفعيل عمل الجمارك ولا بمحاسبة المتورّطين من عناصرها في قضايا فساد مع مافيا التهريب، فالمطلوب من وزير المالية أن يُقدّم في اجتماعات اللجنة الاقتصادية باعتبارها المستشار الاقتصادي الوحيد للحكومة حزمة متكاملة من مشاريع قرارات تؤدي لخفض مستلزمات الإنتاج في القطاعين الصناعي والزراعي، وتشجيع المستثمرين السوريين المهاجرين لتأسيس مشاريع جديدة لهم في سورية، وتقديم تسهيلات كبيرة للمشاريع الصغيرة، والأهم تحرير القطاع العام الصناعي من القبضة الحديدية للحكومة.