الانتخابات الأمريكية ومستقبل العلاقات مع أوروبا
سمر سامي السمارة
على الرغم من سعي الرؤساء الأميركيين باراك أوباما، ودونالد ترامب، وجو بايدن إلى التركيز على آسيا لمنع الصين من لعب الدور القيادي في تشكيل النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين، فإن الولايات المتحدة لا تزال غارقة في حرب أوروبا الوسطى، وفي غزة وكل أنحاء الشرق الأوسط، ويعود ذلك إلى الأسس التي ترتكز عليها الإمبراطورية الأمريكية، التي يبدو أنها ستتأثر بشكل خطير بنتيجة الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني.
في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى، جادل زبيغنيو بريجنسكي ــ الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جيمي كارتر وقبل ذلك ترأس اللجنة الثلاثيةــ أن الولايات المتحدة كانت منخرطة منذ عقود، والآن منذ أكثر من قرن من الزمان، في مشروع إمبراطوري، لكنه فشل في التركيز على العواقب الإنسانية الكارثية لهذا “المشروع”. وبدلاً من ذلك، وبالاستناد إلى التقاليد الجيوسياسية، كان غائباً عنه أن أي جهة تهيمن أو تسيطر على قلب أوراسيا ستكون القوة المهيمنة على العالم. وبما أن الولايات المتحدة دولة جزرية، لا تختلف عن بريطانيا، فقد زعم بريجنسكي أن الولايات المتحدة لكي تكون مهيمنة في أوراسيا، تحتاج إلى ثلاثة مواطئ أقدام استراتيجية على أطراف أوراسيا: أوروبا الغربية، والجزء الجنوبي من أوراسيا، وغرب المحيط الهادئ أي شرق آسيا.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي في عام 1949، كان الحلف بمنزلة الأساس لموطئ قدم الولايات المتحدة في أوروبا، مدعوماً بتشكيلات مثل مجموعة السبع وغيرها. وقد عبّر السياسي البريطاني هاستينجز ليونيل إسماي، أول أمين عام لحلف شمال الأطلسي، عن الأمر بصراحة عندما قال: إن هدف الناتو هو إبقاء أمريكا في الداخل وروسيا خارجاً، وألمانيا في الأسفل. وبمرور الوقت، تطلب ذلك تعميق اندماج النخب الأوروبية – بما في ذلك بريطانيا- في المشروع الإمبراطوري للولايات المتحدة، فأدّى رئيسا وزراء بريطانيا جون ميجور وتوني بلير أدواراً كبيرة في الحرب على العراق وحرب حلف شمال الأطلسي في أفغانستان، لتعزيز الهيمنة الأميركية والغربية في مختلف أنحاء أوراسيا. ومن خلال رفضه استخلاص الدروس الضرورية من التاريخ، توسّع حلف شمال الأطلسي على نحو متهوّر إلى حدود روسيا، وقد تم تعزيز ذلك من خلال التكامل الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري بين الولايات المتحدة وأوروبا في مواجهة المقاومة الروسية وصعود الصين.
تهدف قمّة الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيس الناتو الشهر المقبل، إلى حماية التحالف من احتمال فوز ترامب في انتخابات تشرين الثاني أو احتمال استيلائه على السلطة بشكل غير قانوني. وبالإضافة إلى ترسيخ الأبعاد العالمية للتحالف، سوف تحاول القمّة تعزيز الدعم الغربي لأوكرانيا، وفي الوقت الذي يرفض فيه الترحيب رسمياً بانضمام أوكرانيا إلى الحلف، الذي قد تؤدّي مادته الخامسة إلى إشعال حرب كارثية بين حلف شمال الأطلسي وروسيا ــ وربما حرب نووية ــ فإن الاتفاقيات الأمنية الثنائية الأخيرة بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول مع كييف سوف يتم الاحتفال بها، وسيتم التعهّد بالتزامات لتعزيز قابلية التشغيل البيني العسكري، كما سيكون هناك تنسيق سريع مع السويد وفنلندا، أحدث الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تقديم تعهّدات لزيادة الإنفاق العسكري، والإنتاج المشترك للأسلحة، والتعاون التكنولوجي، ويرى مراقبون أن القمة ستكون أيضاً بمنزلة مرحلة لحملة إعادة انتخاب بايدن.
يسلّط السجال الأخير في الكونغرس الأميركي، الذي انتهى بتخصيص 61 مليار دولار لأوكرانيا، الضوء على الشكوك والتأثيرات العميقة التي قد تخلّفها انتخابات تشرين الثاني على حلف شمال الأطلسي، وأوروبا، والفوضى العالمية. ومن المأسوي أن الناخبين الأمريكيين يواجهون الاختيار بين العنصري “الجمهوري”، والديكتاتور المحتمل ترامب – الذي يخطط من بين أمور أخرى لترحيل 20 مليون مهاجر من الولايات المتحدة- وبين جيش الحرب الباردة، فريق المجمع الصناعي من الحزب “الديمقراطي” الذي يمثله بايدن من جهة أخرى.
ثمّة أوجه تشابه بين جمهورية فايمار في ألمانيا مع اليمين المتطرّف القادر على تسليم الرئاسة إلى ترامب، واستناداً إلى الانقلاب الفاشل في عام 2020، يتوقّع ترامب حدوث “حمام دم” إذا خسر الانتخابات.
وفقاً لما كتبه ديفيد سانغر المحرّر في صحيفة “نيويورك تايمز” فإن جو بايدن محارب بارد من الطراز القديم، وبدلاً من الضغط لوقف إطلاق النار وإجراء مفاوضات لإنهاء العملية العسكرية في أوكرانيا، يلتزم مع المؤسسة العسكرية الأميركية بتأجيج الخيال حول “الهزيمة الاستراتيجية” لروسيا، وهو ما يعني تغيير النظام في موسكو. ويدعم بايدن الحرب الخاسرة التي يشنّها الرئيس الأوكراني زيلينسكي لاستعادة شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا ذي التوجّه الروسي. لذا فإن إدارة بايدن تلتزم بتقديم ميزانية مذهلة للبنتاغون تقترب من تريليون دولار، والالتزام بمبلغ يصل إلى 1.7 تريليون دولار لاستبدال الترسانة النووية الأمريكية وأنظمة إطلاقها، والتهديد الأخير بتوسيع الترسانة النووية الأمريكية.
يرى مراقبون أن إعادة انتخاب بايدن يمكن أن تعزّز التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي من خلال استعراضات هائلة للقوة مثل تعبئة المدافعين وتعميق الدعم لطموح زيلينسكي غير المجدي، ولدول البلطيق، وبولندا ومولدوفا. وسيهدف إلى وقف التحدّيات التي يفرضها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وغيره من اليمين الأوروبي على التحالف، وسيتم نشر رؤوس حربية نووية جديدة من طراز B61-12 في الدول الأوروبية الست التي تستضيف بالفعل الأسلحة النووية الأمريكية وربما في بولندا.
أما ترامب فهو شخص أحادي الجانب، اشترى في أوائل عام 1987 إعلانات صحفية بحجم صفحة كاملة، تشكك في تحالفات واشنطن الأوروبية والآسيوية. ونظراً لمساراته الانتهازية المعاكسة، وأهوائه، فإن التنبّؤات بشأن سياسات ولايته الثانية لا يمكن إلا أن تكون مجرد تكهنات، فقد أدّت مطالبته غير المتوقعة في اللحظة الأخيرة بنزع السلاح الشامل أو لا شيء من زعيم كوريا الديمقراطية كيم جونغ أون، إلى تخريب ما كان من المتوقع على نطاق واسع أن يكون اتفاقاً لخفض الأسلحة خطوة بخطوة.
ترامب يمارس العلاقات الدولية وفق تقليد زعماء المافيا، معتقداً أنه إذا “فازت” الدول الأخرى فهو يخسر. وبالتالي فإن حلف شمال الأطلسي، وهو التحالف العسكري الأكبر والأقوى في تاريخ العالم، يشكّل قوة قسرية قيّمة ومن غير المرجح أن يتخلى عنها ترامب. ومع ذلك، مثل أوباما وبايدن، فإن أولويته العسكرية والاقتصادية ستكون احتواء الصين، “المنافس النظير” لواشنطن.
خلال هذه الحملة الانتخابية، لم يتحدّث ترامب عن السياسة الخارجية، وكانت تصريحاته الأكثر إثارة للقلق هي الابتزاز الموجّه إلى أوروبا، وتركّز مسيراته القومية الفاشية الجديدة على إدانة المدّعين العامين والقضاة والشهود ودعواته العنصرية لترحيل ما يصل إلى 20 مليون مهاجر من الجنوب العالمي.
على مدى أربعة عقود من الزمن، كانت أولوية ترامب هي زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي وتقاسم الأعباء، لم تتحقّق تهديداته بالانسحاب من الناتو خلال فترة رئاسته، لكنها كانت عنصراً أساسياً في حملته لجمع التبرّعات العسكرية الأوروبية. واحتفل بذلك قائلاً: “يعلم الأميركيون أن التحالف القوي بين الدول الحرة وذات السيادة والمستقلة هو أفضل دفاع عن حرياتنا ومصالحنا”، مضيفاً: إن مليارات ومليارات الدولارات تأتي من بلدان في رأيي، لم يكن من الممكن أن تدفع بهذه السرعة.
خلاصة القول أن ترامب يشكّل ورقة خطيرة للغاية، ليس لديه احترام للحقيقة أو الالتزامات السابقة التي يدّعيها، وفي خضمّ الحروب والشكوك، فإن البقاء يتطلب الفوز بوقف إطلاق النار، وخلق الاستقرار الاستراتيجي، وسحب التحالفات العسكرية، ومواصلة دبلوماسية الأمن المشترك من أجل نظام استراتيجي أوروبي جديد، ومن دونها، سيظل نزع السلاح واحتواء حالة الطوارئ المناخية وعكس مسارها وتحقيق السلام أهدافاً بعيدة المنال.