دراساتصحيفة البعث

 هل ستفقد فرنسا نفوذها بعد تمرّد كاليدونيا الجديدة؟

ريا خوري

شهدت العديد من الدول الإفريقية في العامين الماضيين حالة من الرفض والاحتجاجات العارمة ضد النفوذ والوجود الفرنسيين فيها بداية من جمهورية مالي، مروراً ببوركينا فاسو الواقعة غرب إفريقيا، وصولاً إلى النيجر مؤخراً، وتلك الاحتجاجات أثارت تساؤلاتٍ عدّة عن مدى الاستجابة الفرنسية للمطالب التي نادى بها مواطنو تلك الدول المرتبطة بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي من أساسه، بعد إخفاق فرنسا في تحقيق الأمن والاستقرار المنشودين في منطقة الساحل الإفريقي في مواجهة العديد من الجماعات المسلحة التي عاثت فساداً وقتلاً وتدميراً مثل تنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية، وتنظيم بوكو حرام وغيرها، فضلاً عن دعم القيادة الفرنسية لنظم تعمل ضد مصالح شعوبها، مثل عمر بونغو، رئيس الغابون المخلوع، والرئيس الراحل إدريس ديبي رئيس تشاد وآخرين.

وفي الوقت الذي تواجه فيه فرنسا حرباً مفتوحة على نفوذها القديم وسيطرتها في إفريقيا، انفجر الوضع فجأة في واحدة من أهم مقاطعاتها في أقاليم (ما وراء البحار)، وهي كاليدونيا الجديدة الواقعة في المحيط الهادئ شرقي أستراليا على بعد عشرين ألف كيلومتر من الأراضي الفرنسية. ويبدو أنّ أحداث العنف الدموية التي شهدتها هذه المقاطعة، ليست سهلة أبداً، وقد تؤسّس لأزمات صعبة ومعقّدة في التاريخ السياسي المعاصر للقوة الاستعمارية السابقة.

عندما بدأت أعمال الرفض والاحتجاجات العنيفة، غير المسبوقة منذ عدة عقود، تعاملت السلطات الفرنسية باستهتار وبرودة وفوقية فيها عنصرية مفرطة، وجرى تصوير مشاهد القتل والحرق والنهب وقطع الطرق على أنها شغب شبان خارجين عن القانون، سرعان ما يتم تطويقه والسيطرة عليه، بينما كانت تلك الاحتجاجات الرافضة للوجود الفرنسي وتلك التظاهرات تنضح بمواقف سياسية ومطالب اجتماعية كبيرة ونزعاتٍ استقلالية. وحين انتبه بعض الساسة والإعلاميين  الفرنسيين إلى حجم العنف والفوضى واستشرفوا أبعاده الخطيرة، سارعوا إلى اعتباره تمرّداً، لتبدأ مجموعة من الإجراءات والتدابير منها إعلان الطوارئ وإعادة نشر الجيش على نطاق أوسع، وصولاً إلى زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قرّر الحضور بنفسه لتأكيد السيادة الفرنسية على هذا الأرخبيل البعيد والمهم بالنسبة لفرنسا، فقد اعتبرت باريس، أنّ هذه الاضطرابات والاحتجاجات جاءت في توقيت سياسي قاتل وصعب جداً، وذلك قبل أسبوعين من انتخابات البرلمان الأوروبي المخطط إقامتها في الفترة من 6 إلى 9 حزيران القادم، وتهيمن عليها تطلعات اليمين الشعبوي المتطرّف إلى احتلال مواقع متقدمة على وقع تقلبات عاصفة وحادّة لم تعُد تقتصر أوروبياً على الحرب الدائرة في أوكرانيا.

من الواضح تماماً أنّ تراجع الدور الفرنسي في إفريقيا قد أحدث هزة عنيفة في دوائر القرار في باريس، وفتح الباب واسعاً أمام هواجس قد تحصل في المستقبل القريب. وفي ضوء الاضطرابات والاحتجاجات الدولية والقلق العالمي المتصاعد يتشكّل وعي فرنسي جديد خائف من المستقبل ويذهب إلى حدّ الخوف الحقيقي من فقدان الأقاليم والدول البعيدة بعد خسارة النفوذ الكبيرة في المستعمرات. وكاليدونيا الجديدة، ألحقتها فرنسا بسيادتها منذ عام 1853 واتخذتها منفى نهائياً للمعتقلين والمغضوب عليهم خلال العهد الاستعماري القديم ومنهم آلاف الثائرين والمقاومين الجزائريين ممن تم ترحيلهم قسراً إلى ذلك المكان النائي البعيد بين عامي 1864 و1921، وبات أحفادهم وأحفاد أحفادهم اليوم عشرات الآلاف من نحو 300 ألف نسمة من سكان الأرخبيل البعيد الذي ما زال أصحابه من عرقية الكاناك يحلمون بالتحرّر والاستقلال، وفشلت عدة استفتاءات في تحقيق ذلك الهدف. وقد انتهت اضطرابات واحتجاجات عنيفة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي بتنظيم استفتاء حول التحرّر والاستقلال خسره المطالبون بانسحاب فرنسا نهائياً، وآخر استفتاء جرى قبل نحو ثلاث سنوات قاطعه السكان الأصليون، لتبقى الأزمة الحادّة مفتوحة  بأوسع أبوابها على المجهول حتى انفجرت الاضطرابات والاحتجاجات الحالية.

منذ عام 2021 تزايد القلق والخوف الفرنسي من تمرّد كاليدونيا الجديدة التي تقع في أوقيانوسيا في جنوب غرب المحيط الهادئ على بُعد 1210 كم (750 ميلًا) إلى الشرق من أستراليا وعلى بُعد 16,136 كم (10,026 ميلاً) إلى الشرق من الأراضي الفرنسية. ونجاحها يوماً ما في التحرّر والاستقلال بالاستفتاء الشعبي، وفي العام نفسه تم انتخاب الرئيس لويس مابو، وهو الرئيس الحالي للإقليم وهو من السكان الأصليين ومؤيّد للاستقلال عن فرنسا، وتجنّباً لهذا السيناريو المقيت والسيّئ تم إقرار إصلاح دستوري وتشريعي يهدف إلى توسيع عدد المرشحين الذين يُسمح لهم بالمشاركة العملية في الانتخابات في هذا الإقليم الغني بالموارد الطبيعية حيث يملك حوالي 25% من النيكل العالمي المعروف. وفيها مساحة صغيرة من الأرض مناسبة للزراعة، ويمثل الغذاء حوالي 20% من الواردات، كما يملك إقليم كاليدونيا الجديدة مزاراً سياحياً ساحراً، وهو أحد عناوين عظمة وقوة فرنسا التاريخية ومهم لها من الناحية الجيوسياسية والعسكرية الاستراتيجية.

وقد تعقّدت الأزمة مؤخراً بشكلٍ غير مسبوق بعد تأجيل الانتخابات المقرّرة هذا الشهر حتى نهاية العام الجاري ٢٠٢٤، ومما يجعل لها أبعاداً أكبر وأكثر من المتوقع، ما يثيره الإعلام الفرنسي وبعض القوى السياسية الفرنسية من اتهامات لقوى أجنبية مثل روسيا والصين بتأهيل كوادر مدرّبة تدريباً عالياً تساهم في تحرّر واستقلال إقليم كاليدونيا الجديدة، وهذا ربما لفتح جبهة جديدة ضد الداخل الفرنسي، بعد أن فقدت هيمنتها ونفوذها الخارجي في العديد من المستعمرات الإفريقية سابقاً مثل وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى والنيجر وجمهورية مالي.