دمع.. ثم دمع!
حسن حميد
ياالله.. ارحمني.
فأنا ما عدت أخجل من دمعي المنحدر لأقل لمحة أو رعشة أو نظرة أو كلمة أو مسحة كف، أو أنّة أو شهقة أو تلويحة يد.
دمع، وأنا أسمع أماً تقول لابنها الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في بهو المشفى، وفوق بلاطه: “مع السلامة يا حبيبي”.
دمع، وأنا أرى امرأة حديثة الولادة، نفساء، تجر جسدها جرّاً إلى ثلاجة الموتى، لكي ترى رضيعها الذي مات قربها تحت ركام البيت؛ أراها تمدّ يدها إلى باب الثلاجة، تفتحه بهدوء شديد، لكأنها تظن أنّ ابنها نائم، وتدني جثته منها، تسحبها نحوها، وبهدوء راجف تمد يدها ثانية إلى صدرها، تخرج ثديها، وتلقمه إلى فم ميتها، وتناغيه نواحاً، اسمعها تقول له: “عليك، ارضع يا حبيبي، أمامك سفر طويل بعيد”.
دمع، وأنا أمرّ بالمرضى غاسلي الكلى، ها هو قسمهم، وها هي أجهزة الغسيل، وهذه هي الأسرّة، والشراشف، وقناني الماء، وصواني الطعام، وأنابيب الغسيل، هذه هي أزرة بتدرّج ألوانها، وهذه هي ساعات التوقيت، وهذه هي زجاجات الأوكسجين، كل شيء في مكانه، النوافذ، والخزن، والكراسي، وطاولات الممرضات والممرضين الصغيرة، ومزهريات الورد الاصطناعي، عدا المرضى غاسلي الكلى.. لقد ماتوا.
دمع، وأنا أمرّ بحواضن الأطفال الخدّج، ها هو الزجاج نظيف، وأغطية الأوكسجين بألوانها المتعددة في مكانها، وأغطية الأطفال الملونة، وأقواس الألعاب الملونة ها هي فوق رؤوسهم، وها هي أنّاتهم مسموعة، مثل أصوات أنفاسهم، وبادية مثل حركات أيديهم الساكنة، وارتجافات أصابعهم الساكنة، وعيونهم التي كانت تفتح وتغمض هي الآن ساكنة.. هي غير موجودة، إنها غائبة، لأنهم غابوا، لأنهم ماتوا، فلا طاقة في المشفى.. لا كهرباء، ولا أطباق شمسية.
دمع، وأنا أمرّ بغرف الأطباء، والممرضين، والممرضات، وقد غطّتهم الحيرة، ولفّتهم الشكوى، فراحوا يجهرون بالدمع والدعاء.
دمع، وأنا أسمع جرجس، أمين مستودعات الأدوية، يقول لي: “حرقوا المستودع، حرقوا الأدوية، يا دكتور”، وأراه يضرب وجهه، ويدقّ رأسه بالجدار، ويتمتم: ” المشفى، انتهى المشفى، يا دكتور، كل من هم فيه سيموتون”.
دمع، وأنا أرى الناس يتوازعون الأدوار، ويقتسمون الأموال، وهم يصلّون على الشهداء الذين صفّهم أهلوهم صفوفاً صفوفاً، أرى أيديهم تمتد بالشيكلات نحوهم، فيأخذونها خطفاً وخجلاً، وأسمع أهالي الموتى يتنادون لكي يحملوا أمواتهم إلى المقابر، وأرى سائقي عربات الكارو يستنفرون بغالهم وحميرهم وكدشهم..
دمع، وأنا أنادي، زميلي الدكتور بهجت اليونس، طبيب العيون، أدعوه أن يأتي إلي، أن يلحق بي لأمر مهم، فيأت هارعاً، يدق الباب، ويدخل، وهو يسألني: “خير يا دكتور، بشّر”! فأرجوه، بإشارة من يدي أن يجلس، وأنا أتمتم: “خير، خير”.
ينظر إليّ، وأنظر إليه، يقول لي: “وبعدين مع هذا البكاء، يا دكتور؟”، فأقول له مصارحاً: “لهذا ناديتك، أرجوك فضحني دمعي في خلوتي وعزلتي، وفي ليلي ونهاري، وفي قيامي وجلوسي، أمام الأطفال والنساء، وأمام الشيوخ، وأمام مسؤولي الطبابة العالمية، وأنا أخبرهم وأشرح لهم.. أرجوك، يا دكتور بهجت، أريدك أن تسدّ مجاري دمعي، أرجوك استر عليّ”.. فيهب واقفاً، يأخذني بين ذراعيه، يهزّني، وآخذه بين ذراعي وأهزّه، أرجوه، ويرجوني، أتمتم ويتمتم، ثم نغرق معاً، في همهمات راجفة، ودمع غزير.
ما غفلت عنه.. في قسم الأطفال، وفي دقيقة واحدة، ومشهد واحد، أحسست بأنّ خلقاً دخلوا كلهم إلى القسم، وفي دفعة واحدة، دخلوا من الشبابيك، والأبواب، هبطوا من السقف، ونفذوا من الحيطان، بعضهم استنسخ بعضهم الآخر، حتى ملأوا المكان، ودمعهم أغرق وجوههم وثيابهم وأصابعهم وصدورهم، كلهم يقولون: “ابني، ابني، بنتي، بنتي، يا دكتور، يا دكتور. يا رحمة الله، يا رحمة الله، لطفك يارب، لطفك يارب”. ويتداخل المكان، وأقف بينهم، وأرفع يدي إلى الأعلى، وارفع صوتي بالرجاء، أسألهم، بحق الله، أن يخرجوا لكي يرى الأطباء والممرضون والممرضات ما حل بأطفالهم، لكنهم، وفي لحظة بطء ثقيلة يهمهمون: “يا الله.. يا الله”.
أفرح بخروجهم، وافرح بحركة الأطباء والطبيبات، والممرضين والممرضات، أفرح بالأيدي المتحركة، أفرح بالشاش الذي يلف رؤوس الأطفال وأيديهم، أفرح باحتضان الأطفال والخروج بهم إلى قسم الأشعة، أفرح بالمعقمات التي تندلق فوق الشاش والقطن وتمسح الجروح، أفرح بأنّ نزيف الجروح يتوقف، وأفرح بطاعة الجروح واستسلامها لأيدي الأطباء والممرضين، أفرح ببكاء الأطفال المتصاعد مثل المناطيد، أفرح لأنّ البكاء يشير إلى أنهم أحياء، أفرح بسماع أصوات أهلهم من خلف الستائر قائلين: “أنقذناهم”، وأغص بقولاتهم المتداخلة بأنّ السقوف خرّت فوقهم في لحظة واحدة، وأنّ الحيطان مالت عليهم مدفوعة ومتشظية في لحظة واحدة، أرى طفلة لونها غبار، وابتسامتها غبار، أسنانها غبار، عيونها غبار، رموشها غبار، شعرها غبار، تلوّب بلسانها فوق شفتيها كي تبعد الغبار قليلاً، أرى جديلتي شعرها غباراً، والشريطة الحريرية التي تربطهما غباراً، ها هي أمامي الآن. بلعت بكاءها، ولعلها بلعت خوفها أو طيرته، ها هي صامتة، مذهولة تنظر إلي، لكأنها تناديني، أقترب منها، أضع يدي على يدها المدماة، أمسحها بقطعة شاش معقمة، وأسألها عن اسمها، فتقول: “رانيا”، فأسألها: “أتتوجّعين، يا رانيا”، فتقول رمشاً بعينها إنها تتوجّع، أطلب منها أن تحكي، فتقول: “رأسي يا دكتور، فيه شيء يدقّ”، أقول لها: “ولا يهمك أنت بخير”، فتقول: “أمي”، قلت: “ما بها؟”، قالت: “وقع الحيط فوقها. ما زالت تحت الحيط أم أتيتم بها إلى هنا؟”، فأغص، ويسح دمعي، رانيا في الخامسة أو السادسة من عمرها، تنظر إليّ، تريد إجابة مني حول الجدار وأمها، فأقول لها: “لا تخافي، أمك بخير”، فتتشجع وتبتسم وتقول لي: “الحيط الذي كنت أرسم عليه، وأكتب عليه، وقع عليّ، وعلى أمي”، قلت مكرراً كلامي: “ولا يهمك، يا رانيا، أنت بخير، وأمك بخير”، قالت: “لكن، قل لي يا دكتور، ما يحدث حلم أم حقيقة، جد أم مزح!”.
قلت: “رانيا، هذا.. كله حلم، كله.. مزح”، قالت: “وهذا الشاش يا دكتور، وهذا الدم، وهذا الدق في رأسي؟”، قلت: “كله مزح.. كله حلم.. ولا يهمك”.
نعم، ربتت على يد رانيا، واستدرت لكي أهرب من أسئلتها.
ما غفلت عنه أيضاً، وهذه.. أنيسة طفلة كبيرة، صبية أو تكاد، كانت عندي في قسم العظمية، أبكتني طول النهار وطول الليل، هي طالبة في الثانوية، وجهها مثل رغيف خبز شواه طابون حتى تقمّر فرهج، وقع بيتهم فجأة، وهم نيام، كانت عظامها كلّها مكسّرة، القدمان، واليدان، وجمجمة الرأس، والأضلاع، والعمود الفقري، واهتممت بها كثيرة. كنت وأنا أجبر كسورها، وبعد أن عاينت صور الأشعة، أرجو الله أن يساعدني ويساعدها، كانت تبكي وتنوح وترجو، ونحن نخيط جروحها، ونجبر كسورها، ونشدها بالمشدّات، كانت ترجوني لكي لا أعالجها، وألّا أنقذها، وألّا أساعدها في شيء لكي تعيش، تقول لي حين تستطيع الكلام: “دعني أموت يا دكتور أرجوك، دعني ألحق بأهلي، أمي رأيتها تموت وهي تنظر إلي وهي تناديني: أنيسة، أنيسة، وأبي مات وهو بجواري تماماً، سمعته، قال: آخ، وهمد، إخوتي، وأخواتي كلّهم ماتوا، فلمن أعيش، ولأي شيء، ولماذا، وتسألني، دخيلك يا دكتور، أنا طالبة الموت لكي أكون مع أهلي، لكن يا دكتور، هل سنكون شهداء، وهل سنذهب إلى الجنة”.
آاخ، ماذا أقول لها الآن، وأنا أجمع عظامها بهذه المشدّات، قل لي يا رب ماذا أقول لها!
ما غفلت..عنه أخيراً.. ضيّعني كلام الطبيب الجرّاح ماجد خميس، وهو يروي لي أنّ رجلاً عجوزاً، دخل عليه مثل حصان أصابت عينيه شظايا فأغرقته في ظلمة شاسعة، اقتحم غرفة العمليات، وهو يسأل عن حال ابنه الشاب الذي قصفته طائرة الكواد كابتر الإسرائيلية، فرجوته أن يخرج، لكي لا يفسد الهواء، وأخبرته أن ابنه بخير، وعليه ألا يقلقه..
فقال لي: “وأين إصابته يا دكتور”، فقلت: “في صدره وبطنه، لقد تفتت طحاله”، فقال: “أرجوك، يا دكتور، خذ طحالي من شروشه، وخيطه في بطن رامي، إنه وحيدي!”.
ورأيته يشرع بخلع ثيابه، ويتمدد على البلاط، ويناديني: “تعال، يا دكتور، تعال يا حبيبي، خذ طحالي وأعطه لرامي”.
Hasanhamid55@yahoo.cm