إيمان موصللي: المباشرة في الشعر تجني عليه
أمينة عباس
أدباء كثر كان الشعر محطتهم الأولى، وسرعان ما تخلّوا عنه باتجاه القصة أو الرواية، أما الشاعرة إيمان موصللي وهي التي اختبرت أنواعاً أدبية متعدّدة في مسيرتها، فيبدو أنها حسمت أمرها في خياراتها بإصدار مجموعتها الثالثة “تاء التأنيث الثائرة”، مؤخراً، ليتضح لدى من يتابعها أن كتابة الشعر لم تكن مجرد نزوة عابرة بل حاجة ملحّة لديها، وبهذا الصدد تقول في حوارنا معها: “الشعر هدفي الأسمى وطموحي الأكبر، وليس نزوة عابرة بل حالة مزمنة أعشق أطوارها، ويسحرني هذا العالم المدهش، ولكن لا ضير من كتابة الرواية أو القصة، ولي تجربة في القصة القصيرة نلتُ عليها جائزة، لكن يبقى الشعر شغفي الأول والأخير”. نسألها: “ما الذي يميّز مجموعتك “تاء التأنيث الثائرة” عن سابقيتها؟”، فتجيب: “مع هذه المجموعة أصبحتُ أكثر نضجاً وعمقاً في تناول مواضيع القصائد، وصارت الرؤية أكثر اتساعاً بما يجول بداخلي وما يدور حولي من تفاصيل صرتُ أراها وأتأملها ببعد آخر، ويبقى القاسم المشترك بين المجموعات كلها هو الأسلوب وطريقة التعاطي مع اللغة، مع بعض التطور في محاولة إغناء المفردات وكشف وجوه جديدة لها لم تكن ظاهرة لي قبلاً، إلى جانب وجود نَفَس فلسفي أعمق وخروج واضح من الذات إلى الغير، مع عدم إغفال الإحساس الشعري المتصاعد ومحاولة ابتكار صور مختلفة وغير متداولة، فأنا دائمة البحث عن التفرّد في رسم الصورة الشعرية، وتعلمتُ مما سبق أن التكثيف والبعد عن الحشو هو ما يميّز قصيدة النثر التي أكتبها”.
احتفت إيمان موصللي بتوقيع “تاء التأنيث الثائرة” كما فعلتْ في المجموعتين السابقتين، وهي تحرص على ذلك قائلة: “لكي يرى ما أكتبه الضوء ويكون في متناول النقاد والقراء والأدباء، ما يثري تجربتي، سواء من نقد بنّاء أم ملاحظات هادفة”. ولكن هل تعامل النقد مع كتاباتها بما يرتقي بها؟ تجيب: “النقد الذي وجّه لنصوصي ساهم في تطورها وإثراء تربتها، ولكن ما عانيتُه كما عاناه غيري هو اللبس والإشكال حول قصيدة النثر الذي يستمر حتى هذه اللحظة بلا كلل ولا ملل، فهي عرضة للهجوم مع بعض الاستثناءات من الداعمين لها والمنافحين عنها، وأكثرهم من شعراء الموزون كما أراه من تجربتي الشخصية، فمن نقد تجربتي وأجرى دراسة عن دواويني غالبيتهم من شعراء العمود، وهذا شي يدعوني للفخر”.
وتفسّر موصللي سبب ميلها وميل الشاعرات عموماً لقصيدة النثر قائلة: “أحبّ كلّ أجناس الشعر التي تلامس روحي وتغوي ذائقتي، وقد جرّبتُ كتابة الشعر الموزون وكانت تجربة غير مميزة، أما في كتابة قصيدة النثر فقد وجدتُ نفسي مطواعة لها، وشغفي بها يضعها في المقام الأول بالنسبة لي مع احترامي للموزون والتفعيلة، فهي محلّقة ومجنّحة وثائرة وتائهة ومتمردة على كل ما حولها، لذلك تراها المرأة الشاعرة فسحة لها لتروض ما حولها وتطوع ما لها بنصّ ينثر عطرها بعشوائية وسحر، لكن يجب أن أقول إن هناك شعراء نثر لا يشق لهم غبار، وأنا أعدهم قدوة لي في رحلتي الشعرية”. وعن الإقبال الكبير حالياً على كتابة الشعر من قِبل النساء تبيّن: “منذ القديم هناك شاعرات ماجدات لهنّ أسماء كبيرة، ولكن عصرنا الحالي منح المرأة أفضلية الضوء وحرية التعبير أكثر، لذا صار هناك شاعرات يكتبن ويلقين وينافسن الشعراء، وأحياناً يتفوقن عليهم، وأصبح لهنّ شأن كبير في مداولة أمور الأدب والثقافة والشعر”، لهذا تجيب على تساؤلات الشاعرة سعاد الصباح حين قالت: “هل تستطيع امرأة مقيمة في مدن الغبار -أن تتحدى مرة واحدة سلطةَ شهريار- وتكتبَ الشعرَ على دفاتر من نار؟”، قائلة: “ما كتبتْه سعاد الصباح محرّض، وأكثر ما حرّضني على كتابة الشعر هو إشعال الكلمة على يد وقلم أنثى وبإحساس أنثى، وبهذا أنفضُ الغبار عن كل المفاهيم الجاهزة مسبقاً، وأعطي شهريار مجد قراءة المرأة وهو يمسك يدها ويساندها، فالشعر كشف عنها غطاء العادات البالية مع احترام العادات المناصرة للمرأة والحفاظ على الأخلاق التي يجب أن تكون بوصلة أي عمل أدبي أو إنساني”.
ولدى سؤالنا عن ترجمتها لمقولة يردّدها الكثيرون وهي “يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره”، وهل تستطيع أن تترجم هذه المقولة في شعرها، تؤكد موصللي بالقول: هناك سقف للحرية لكلّ ما نمارسه، وهذا السقف يصون المعنى في الشعر، ولا يأخذنا نحو متاهات نحن بغنى عنها، والجرأة حرية واجبة، لكن لغرض مدروس وليست لمجرد الجرأة بحدّ ذاتها، فأنا أستطيع أن أكتب الشعر من دون أن أخدش الحياء أو أتجاوزه وهذه مهارة الشاعرة بشكل خاص، أما الجنون الذي يمارسه الشعراء عادةً في كتاباتهم فهو سمتهم، والقصيدة بالنسبة إليّ يجب ألّا تخلو من شرارة الجنون، فطالما لديّ قاموس الدهشة وهبة اللغة التي تخلق لي أجنحة، فأنا دائمة التحليق والتخلي عن كل ما هو معتاد ومألوف، وهذا أكثر ما يحتاجه الجنون والشعر”.
ونسألُ موصللي: “متى تصبح اللغة عند الشاعر غاية بحدّ ذاتها؟ وما تأثير ذلك على ما يكتبه الشاعر؟” فتردّ: “اللغة هي جسد القصيدة، ويجب أن يكون هذا الجسد بصحة جيدة ورشاقة ملفتة، لذا على الشاعر أن يتقن نحته بمهارة ودراية، لكن اللغة ليست استعراضاً بل هي وسيلة ليصل مراد المعنى أو الصورة عند الشاعر بأبهى حلة”. ولكن ماذا عن المباشرة في الشعر؟ وكيف تحصّنين نفسك لعدم الوقوع في هذا المطب؟”، تقول: “ما أبعد الشعر الحقيقي عن المباشرة، والمباشرة في الشعر تجني عليه، وقصيدة النثر أكثر ما يميّزها الغموض المدروس وعدم التوغل فيه بشكل يصبح فيه النص مبهماً وغير مفهوم، وعلى القصيدة أن تضع المتلقي في حيرة تارة ودهشة تارة أخرى بحيث تثري خياله وتورّطه في القصيدة كما تورّط شاعرها، وبرأيي ليس هناك حاجة للمباشرة سوى لغرض تعليمي فقط”.
في الماضي قيل إن الشاعر هو لسان الأمة، فهل ما زال يتمتّع بهذه المكانة؟ تجيب موصللي: “كان للشاعر مكانة اجتماعية وسياسية تمكّنه من التعبير عن الأمة بشكل واثق ومدعوم ممن حوله، أما في وقتنا الحالي فالشاعر له مهمة أصعب، إذ عليه على الرغم من البيئة الثقافية التي ضجّت بالكثير والظروف الصعبة أن يعبّر عن حال الوجع والتعب والفرح للإنسان بشكل عام ولوطنه بشكل خاص، ولكن على طريقته الخاصة وبإصرار منه لأن تصل كلمته وتلقى أثرها الواضح”، ولأن لكل شاعر شيفرة خاصة للوصول إلى قلب القارئ والمتلقي لدى موصللي مثل هذه الشيفرة وفق ما تسمع من رأي القراء: “دائماً ما تلفتهم صوري الشعرية، ما يضعني في حرج مع القصيدة، إذ يجب أن أبتكر وأجازف وأطوّع الكلمة لأرضي الغاية، وهذا يحتاج عصفاً ذهنياً وثقافة عالية وقراءة مكثفة وطريقاً طويلاً في سبيل أن تبقى لي هذه الشيفرة أو البصمة الخاصة بي”.
وتختتمُ إيمان موصللي حوارنا معها بالحديث عن البيئة التي تنتمي إليها وأثرت على ما تكتبه، فتقول: “الشاعر ابن بيئته التي يتأثر فيها، لكن الفارق بينه وبين غيره هو أن له عالماً متخيلاً خاصاً به يحوّل ما حوله إلى طيور وفراشات ومخلوقات نادرة، وأحياناً يشعل النار ولا يخمدها، فأنا أتناول المحيط الذي تقع عليه عيني بغاية أخرى وكأنني أصنعه على مزاجي، لكن بهويتي وهوية ما عرفتُه منذ طفولتي وحتى اللحظة”.