ثقافةصحيفة البعث

عبد اللطيف عبد الحميد وعمق التركيب الدرامي وصعوبة تفكيكه

رفعت الديك

رحل المخرج والممثل السينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد عن 70 عاماً في دمشق التي لم يشأ مغادرتها، على الرغم من الحرب، مختاراً أن يبقى مع الشعب الذي عبّر عن خيباته وآلامه وآماله القليلة.

شكّل الحلم في سينما عبد اللطيف عبد الحميد (1954-2024) مادة خصبة لصياغة ما يقارب الـ 20 فيلماً، روائياً طويلاً وقصيراً ووثائقياً، وقدّمت الحياة الكثير من المقترحات لصاحب “ما يطلبه المستمعون” 2003، فانعكست شخصيته المرحة الساخرة في نتاجه الإبداعي، وتجلّى ذلك كملَكة خاصة لديه، لصياغة المفارقة والدهشة سينمائياً، أمام كل موقفٍ أو حادث عابر يمرّ به في حياته اليومية، فاستطاع التقاط مادته الفيلمية بفطرية بالغة، من متناقضات الشارع السوري، وسخر من شتى أنواع القبح والقمع الاجتماعي والأبوي، فقد كان معروفاً عنه أنه يستيقظ من نومه ليدوّن أحلامه على دفاتر يضعها إلى جانب سريره، فـالأحلام بالنسبة إليه هي “الحقيقة الوحيدة” كما كان يردّد “فيدريكو فيليني”، وهذا ما يبدو واضحاً في شخصية صباح “صعود المطر” وقد لا يكون الفيلم إلا استعراضاً يرصد حياة بائسة في شروطها وعلاقاتها لكاتب كبير يشله العجز وتؤنسه الأحلام والتداعيات التي تصنع ثوراته الوهمية.

وشخصية “صباح” في هذا الفيلم رئيسية، ويتمحور حولها الفيلم ويرسم دلالاته، شخصية مركبة تضمّ في طياتها الكاتب والفنان، رب الأسرة والعاشق، وتعبر عن نفسها من خلال تقاطع عالمي الحلم والواقع، لتشكل في النهاية لوحة شاملة عن عجز المثقف إزاء واقعه، وعن تلك العلاقة العاطلة بينه وبين المحيط، وهكذا يؤسس عبد اللطيف فيلمه، انطلاقاً من مبدأ التكامل بين الباطن والوعي، الباطن بما فيه من تداعيات وأحلام وهواجس هو مظهر وتفسير لسلوك الفرد الواعي، وللواقع بمكوناته المختلفة.

وهنا تقول الكاتبة تهامة الجندي في تحليلها للفيلم عطالة العلاقة بين المثقف والمحيط تتكشف في الفيلم من خلال أولاً: الجانب الإبداعي من شخصية “صباح” لا يكفل له الحدّ الأدنى من حياة كريمة تتوافر فيها شروط طبيعية للعيش والراحة -المسكن صغير، السقف يرشح ماء، الغذاء مفقود وكذلك الدفء- ولولا المساعدات التي يتلقاها صباح من جيرانه لمات هو وأسرته جوعاً وبرداً.

ثانياً: يفترض بالثقافة والإبداع صفة الفعل والتغيير، لكن “صباح” يعجز عن التأثير في أقرب الناس إليه أي ابنه البكر، ذلك الشاب المتسيّب، عديم الاهتمامات والمسؤولية الذي يستغل اسم والده في استدراج الفتيات إلى علاقات عابرة بحجة الزواج منهن.

ثالثاً: سلبية “صباح” على المسار العاطفي سلبية تصل إلى حدود إدانة رجولته، والرجولة هنا ليست تسمية أو مظهراً، إنما جوهر يتكشف في علاقته مع الجنس الآخر، زوجته الأولى يطلقها لأنه يحبها، ويظل يردّد ذلك على مسامعها كلما التقاها، علاقته بزوجته التي يعيش معها علاقة جافة تخلو من المشاركة، جارته التي تشكو الوحدة وإهمال الزوج معجبة فيه ككاتب ورجل، لكن “صباح” يعجز عن تحديد موقفه من مشاعرها، ويكتفي بأن يطلب من نسائه الثلاث ما يريد، والحاجة فقط تبرر اللقاء، وإحدى حاجاته المتكررة هي الاستمتاع بمراقبة إحداهن ترقص بثوب أحمر.

كما تتحدث عن أحلام “صباح” فتقول: “صباح” يحلم بالثورة، وعلى لسان بطل روايته -محمود جبرـ يريدها ثورة ضد الفساد والرشوة والنظام العالمي الجديد، ثورات قنابلها بطيخ، صانعو ثورات، قادة خطب، تداعيات، والعالم كله بطيخة خارجها أخضر داخلها أحمر يغلي. ويظهر المخرج براعة لافتة بفنتزة الواقع كوميديا، للتعبير عن ضآلته ولا واقعيته، فنتزة محكمة غير مجانية لها دلالاتها ورموزها العميقة، لقطات مصمّمة، بعناية كبيرة، يذكرنا بعضها بلقطات فليني في أفلامه الأخيرة.

الرجل المولود في حمص كان بدأ حياته كموسيقي ومطرب بعد دراسته للموسيقا. وقد اتكأ هذا الفنان على إرثٍ معرفي وحياتي كبيرين، لقراءة البيئة التي أخلص لها من دون خيانتها أو تزويرها، أو حتى محاولة زركشتها أو تجميلها، لكن البيئة هنا لم تكن هاجس هذا المخرج، بل كانت مجرد أداة لتشريح عمق الحياة فيها”.

يقول المخرج المسرحي رفعت الهادي إن عبد اللطيف عبد الحميد لم يطرح شخصية المثقف بالشكل المباشر أو التقليدي، لكن المتلقي لأعماله يجب أن يكون مثقفاً أو درامياً حتى يستطيع تفسير مفاصل العمل ويصل إلى العمق الدرامي المطروح بكل بساطة وسلاسة، وهذا يضعنا أمام مستويات متعدّدة ومتنوعة للتلقي وكلما دخلنا إلى أعمال عبد الحميد وجدنا عمقاً أكبر وكلما اتضحت الأمور نجد من خلال إعادة التفكيك ودراسة البنية وإعادة العرض درامياً المعاني العميقة التي تحتاج إلى سوية ثقافية عالية للوصول إلى تفسيرات وعمق هذه الأعمال، فكل عمل هو مدرسة خاصة يحمل منهجيته بداخله، وعلى الرغم من الشخصيات البسيطة والعادية في أعمال عبد اللطيف عبد الحميد، نجد التميّز في التركيب الدرامي له في أعماله كلها.