في ذكرى اغتياله.. غسان كنفاني و التراجيديا الفلسطينية
أمينة عباس
لم يكن اغتياله من قِبل العدو الصهيوني في مثل هذه الأيام من العام 1972 وقول رئيسة وزراء العدو آنذاك “غولدا مائير” التي أعطت الأمر بالقتل: “لقد قتلْنا اليوم ألوية ثقافية مسلحة” إلا تأكيداً على أن غسان كنفاني لم يكن مثقفاً يتحدث عن فكرة هو بعيد عنها، بل كان مثقفاً يقاوم على جبهة الكتابة وفي قلب المعركة، ويُخلص لأفكاره التي لم تكن حبراً على ورق فقط، فسقط شهيداً ليعمد رحلته الأدبيّة بالدم، وهذا ما جعل وسيجعل أدبه حياً وخالداً، وعباراته محفورة في الذاكرة يرددها الكبار والصغار: “لا تمت قبل أن تكون نداً” و”خُلقت أكتاف الرجال لتعليق البنادق” و”دقّوا جدران الخزان” و”الإنسان قضية”.
قيل الكثير عن غسان كنفاني وحياته القصيرة وإبداعاته المتعددة، ومن ضمن ما قيل في كتاب “رعشة المأساة” للناقد الفلسطيني يوسف سامي يوسف: “لو أن هذا الكاتب أتيح له الوقت الكافي لكان من أهم كتّاب العالم” وهذا ما أكدت عليه الندوة التي عُقدت مؤخراً في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة بمشاركة أ. سعيد البرغوثي، والكاتب د.حسن حميد، والناقد د.ثائر عودة، والكاتب محمد حسين الذي أدار الندوة وقد بدأ كلامه قائلاً: “رغم استشهاده لا زلنا نكتشف في كل يوم شيئاً جديداً في كتاباته.. كان كاتباً قلقاً يبحث دائماً عن الحقيقة/الوطن وهذا القلق سمح له أن يبحر في فضاءات واسعة، فكان روائياً وقاصاً وتشكيلياً وإعلامياً وقيادياً في الجبهة الشعبية، فكان جزءاً من الحركة الوطنية الفلسطينية، وقدّم حياته ثمناً لفكرة المقاومة التي كان يحملها، وهنا تكمن قوته في أنه مارس هذه الفكرة واستشهد من أجلها”.
أثناء دراساته العليا في الجامعة اللبنانية التقى د.حسن حميد زوجة غسان كنفاني مرات عدة، وأراد من تلك اللقاءات أن يعرف حلم غسان كنفاني الحقيقي.. يقول حميد: “كانت زوجته تجيب إجابات مختلفة على تساؤلاتي، لكنها من حيث الرؤيا واحدة، فحلمه كان مشدوداً إلى الظَّفَر ومحو ما جاءت به النكبة الفلسطينية عام 1948 وأن أولى عتبات الظَّفَر تتمثل في أن يكتب الفلسطينيون روايتهم الفلسطينية التي تنقض الرواية الصهيونية التي استندت إلى تاريخ هشّ متداع وأوهام دينية باهتة ومقولات ضريرة وارتباكات مكانية لا تؤيدها وثيقة أو خريطة أو كتاب.. وثاني العتبات تتمثل في أن يسعى الفلسطينيون إلى نشر روايتهم والترويج لها في كل مكان، ولا سيما في بلاد الغرب التي أوجدت الكيانية الصهيونية انتشاراً عاماً في الآداب والفنون وعلوم المعرفة المختلفة، وعبر كل أشكال الخطاب المتعارف عليه بشرياً لأن انتشار الرواية الفلسطينية وحضورها والتعريف بحمولة النكبة الفلسطينية وما أفصحت عنه من ويلات وآلام ولا سيما في بلاد الغرب سيفضح بالأدلة والشواهد والأرقام والوثائق والأسماء والأمكنة والأحداث الرواية الصهيونية ويكشف زيفها وأكاذيبها”.
ويضيف د.حميد قائلاً: “حلم غسان كنفاني كان مشتقاً من حلم الفلسطينيين، بل هو حلم كل الشعب الفلسطيني الذي ينادي صباح مساء “موطني موطني” وهو جوهر الحلم الفلسطيني وغديره الذي يشرب منه كل الفلسطينيين لأن الصهيوني الذي غدا اسمه الإسرائيلي منذ العام 1948 أراد أن يدفن كل شيء يتعلق بالمأساة الفلسطينية وروايتها التي تواجه أصحابها صعوبات جمة وعقبات فسيحة لتبقى حائلاً دون وصولها إلى أحلامها.. إن إدارة الظهر للرواية الفلسطينية ليس لامبالاة فحسب بل هو عيب وخطيئة أخلاقية، أما حلم الحال الثقافية الفلسطينية فهو حلم غسان كنفاني، أي أن تتجلى الرواية الفلسطينية الحقيقية كي تبوح وتعدد وتذكر وتروي وتصور وتستبطن كل أنة من أنات هذا الشعب.. لقد كان حلم غسان كنفاني والشعب الفلسطيني بمختلف شرائحه وفئاته يتمثل في كتابة الرواية الفلسطينية الحقيقية لكل ما حدث فوق تراب فلسطين منذ وعد بلفور 1917 إلى مآلات النكبة في العام 1948 ونشرها بكل الطرق والسبل لأن الظلم الذي وقع على الفلسطينيين بسبب النكبة وما زال فاق الاستطاعة والتصور، بل فاق كل ما هو عجائبي وغرائبي”.
ويصف الناقد د.ثائر عودة غسان كنفاني قائلاً: “هو مؤسسة ثقافية بأكملها، فقد كان باحثاً وسياسياً ومؤرخاً وصحفياً ورساماً وناقداً، ترك لنا صورة كاتب واظب على الكتابة طوال حياته التي كان يستشعر أنها ستكون قصيرة.. ولدى قراءته اليوم نكتشف أنه في عمق وعيه كان يدرك أن الثقافة أصل من عدة أصول السياسة، وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي، وهو الذي أثبت بالبحث والدراسة أن الصهيونية الأدبية كانت سابقة ومؤسسة للصهيونية السياسية وذلك في كتابه الفريد من نوعه “في الأدب الصهيوني” الذي أكد فيه أن الصهيونية لا توفر شيئاً دون أن توظفه كأداة في إيصال أفكارها، وقد كان هذا الكتاب وحده كافياً ليقوم الموساد الصهيوني باغتياله في بيروت”.
ومع تتبع النشاط الأدبي والسياسي المحموم لكنفاني يبين عودة: “كانت كتاباته الأولى، ولا سيما الروايات تتمحور حول الخروج من فلسطين نحو الشتات إلى أمكنة بديلة وإدانته مع ما ينطوي عليه من ألم ومأساة، فرواية “عائد إلى حيفا” ١٩٦٩ تعنى بمعالجة أثر النكبة ومعنى الالتزام بقضية، مع سرد مختزل لواقعة التهجير ومن ثم الانتقال للعودة التي تحمل شكلاً من قيم الوعي بالقضية، فيما تعنى روايته “رجال في الشمس” ١٩٦٣ الأسبق زمنياً بمقولة راديكالية تجاه الخروج، ولعل هذا النمط من التشكيل السردي الذي دشنه كنفاني يمثل علامة من علامات تمثيل النكبة في الرواية الفلسطينية التي كان فيها كنفاني سارداً لمرحلة التهجير واللجوء والشتات ومشكّلاً لبعد آخر للمقاومة تجاوز خطاب التفجع والبكاء وانتظار الإعانة والتشكّي والعويل الذي اتصفت به بعض كتابات النكبة والشتات، داعياً كنفاني إلى التوقف عن الكتابة بهذه اللغة لأن فلسطين لا تعرف إلا شيئاً واحداً فقط هو المقاومة”.
ويختتم عودة كلامه قائلاً: “غسان كنفاني واحد من أهم من كتبوا عن التراجيديا الفلسطينية، والذين قرروا اغتياله كانوا يعرفون تماماً أنهم يقتلون مشروعاً كان من الممكن أن يصبح ذا مكانة عالمية بامتياز”.
ظلت كتابات غسان كنفاني تحت المجهر دائماً، لأنها كانت وما تزال عابرة للأزمان، وتؤكد الأيام والظروف والأحداث المتعاقبة على الشعب الفلسطيني صوابية ما جاء فيها، وهذا ما جعل كنفاني فكرة لا تموت.. يقول الكاتب والناشر سعيد البرغوثي: “لا أعتقد أن كاتباً ومبدعاً ظفر بما ظفر به كنفاني من مراجعة وتحليل وقراءات ودائماً يكتشف أن هناك شيء جديد لم يطاله أحد بحكم نتاجه الغزير والإلهام الذي لم يسبقه إليه أحد، وفيه كانت عينه شاخصة على الوضع الفلسطيني وكان نتاجه دائماً هو نتاج ذلك الوضع وبنت لحظتها حيث لا يمكن زمنياً استبدال رواية برواية أخرى، فما كان ممكناً له أن ينتج “عائد الى حيفا” في زمن “رجال في الشمس” وكذلك باقي الروايات لأن نتاجه كان متفاعلاً مع الوضع الفلسطيني وهذا ما جعله هدفاً للعدو”.