دراساتصحيفة البعث

أوكرانيا بين الهزيمة أو قبول المفاوضات

ريا خوري

بعد حرب ساخنة في أوكرانيا دامت نحو عامين ونصف العام، أدركت القيادة السياسية والعسكرية الأوكرانية أنّ الحرب ضد روسيا الاتحادية غير مجدية، على الرغم من كل الدعم العسكري واللوجستي والسياسي الهائل من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فقد تم الحديث مؤخراً في الدوائر المغلقة، وحتى بعض الدوائر المفتوحة، أنّ أوكرانيا تتجه نحو خيارين لا ثالث لهما، إما الذهاب للتفاوض مع القيادة الروسية على تسوية وإنهاء الحرب نهائياً، وإما التعرّض لهزيمة استراتيجية لا مثيل لها في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر، على الرغم من كل الدعم الغربي والضغوط والعقوبات الجائرة التي يفرضها الغرب على روسيا الاتحادية.

هذان الخياران يستندان إلى الحقائق المكشوفة للعيان، والوقائع الجارية على الأرض وحالة الانكسارات والهزائم المتتالية، بعيداً عن الأوهام وسياسات المراوغة والخداع التي يسوقها الغرب الأمريكي ـ الأوروبي بإمكانية إلحاق الهزيمة بروسيا الاتحادية وبجيشها القوي جداً، وتحقيق (نصر) لأوكرانيا، لم يعُد ولم يكن أصلاً في متناول أوكرانيا والتحالف الغربي على امتداداته الواسعة، لفرض صياغات وخطط جديدة للأمن الأوروبي والعالمي. ما نراه اليوم على الأرض هو أن روسيا الاتحادية تتقدّم بشكلٍ متسارع على كل الصعد، وتتقدّم في الميدان العسكري والأمني، وتراكم نجاحاتٍ تكتيكية كبيرة، على الرغم من رصد مليارات الدولارات التي يدفعها الغرب لتمويل الحرب وضخّ شحنات السلاح والذخائر المتنوعة من كل الاتجاهات إلى الجيش الأوكراني، على أمل تحقيق إنجاز ما يُبعد شبح الهزيمة المحققة التي ستنعكس بشكلٍ أو بآخر على الغرب نفسه، وتتسبّب في تغيير معادلات وخرائط جيوسياسية بقي يسعى جاهداً لتجنّبها والابتعاد عنها.

الأسوأ في تفكير ومنهج القيادتين السياسية والعسكرية الأوكرانية، هو أن الرهان على استنزاف روسيا الاتحادية وجيشها القوي جداً في أوكرانيا لإضعافها وفرض الإملاءات والشروط عليها، ثبت فشله الذريع، فروسيا الاتحادية دولة شاسعة تبلغ مساحتها 17,075,400 كيلومتر مربع، وتمتلك قدراتٍ وموارد بشرية وتسليحية هائلة، ناهيك عن كونها دولة نووية من الدرجة الأولى في العالم، أي أنها دولة عظمى بكل المقاييس الدولية، وهي قادرة على إنتاج أضعاف ما ينتجه الغرب مجتمعاً من السلاح والذخيرة والتكنولوجيا والاقتصاد، ما يجعلها قادرة على استنزاف الغرب برمّته، وليس العكس، ناهيك عن أنها تتمتع بالعديد من المزايا  وأهمها مزية تحمّل التضحيات والمعاناة مهما كانت صعبة وقاسية، أكبر بكثير من أوكرانيا والغرب الأمريكي ـ الأوروبي.

المتابع لمستجدات الصراع السياسي والعسكري في أوكرانيا يجد أنَّ عدداً كبيراً من الخبراء العسكريين والاقتصاديين والمراقبين ينصحون أوكرانيا بتجميد الوضع على الجبهات والذهاب لمفاوضات مع روسيا لإيجاد تسوية سياسية شاملة قبل التعرّض للهزيمة النكراء التي تنتظرهم. الجدير بالذكر أنَّ روسيا الاتحادية كانت قد وضعت شروطاً صعبة للغاية من حيث قبول الأمر الواقع على الجبهة والتنازل بشكلٍ رسمي عن الأقاليم الأربعة التي ضمّتها روسيا عام 2022 وهي لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون.

وفي ضوء هذا المشهد الواقعي، قد تفضّل القيادة الروسية خيار التفاوض على كل القضايا التي طرحتها صراحةً دون التخلّي عن مطالبها وأهدافها الاستراتيجية، التي تخصّ أمنها القومي الاستراتيجي، ممثلة في عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) أو قبول أي وجود عسكري للحلف على حدودها بأي شكلٍ من الأشكال، الأمر الذي تعدّه (تهديداً وجودياً) لها، وضمان أن تكون أوكرانيا دولة محايدة وغير نووية، ولا تملك أي سلاح من أسلحة الدمار الشامل، ناهيك عن إعادة صياغة الأمن في القارة الأوروبية على أسس عادلة تضع مصالح الجميع في الاعتبار. وهي مطالب كبيرة ومهمّة تعيدنا إلى المربَّع الأول، إذ إن القيادة الروسية كانت قد طالبت بها علناً وعدّة مرّات ورفضها الغرب بصلف وتكبّر قبل اندلاع الحرب. وبالتالي يبدو أن أوكرانيا باتت مطالبة اليوم أكثر من أي يومٍ مضى بتوضيح خياراتها المحدودة، إما مواصلة الحرب وهي حرب ساخنة لا محالة، وهو ما سيقود إلى هزيمتها الحتمية، وفق الخبراء وقادة الجيوش والمحللين والمراقبين، وإما العمل على تسوية سياسية مقبولة تنهي الحرب بشكلٍ كامل ونهائي وتحفظ ماء وجه الجميع دون إراقة الدماء وهدر الكرامة.