دراساتصحيفة البعث

الغرب الديمقراطي والشرق الاستبدادي.. هاتنغتون جديد

ما زال بعض الكتاب في الغرب محكومين بمقولة الصراع التاريخي والثقافي بين الشرق والغرب، وهو أمر مؤسف ويدعو إلى التساؤل ويضع الداعين إلى الحوار بين الحضارات والثقافات في مأزق حقيقي، إضافة إلى أنه يعطي لمروّجي مقولة صراع الحضارات الحجّة والذريعة الكافية للتغوّل في هذا المفهوم، ولعل ما يزيد في نفخ محرقة الصراع تلك، ما ورد في كتاب صدر منذ عدة سنوات للكاتب الإنكليزي توم هولاند أتيح لنا الاطلاع عليه عبر دراسة مكثفة، إذ تشير الفكرة المحورية للكتاب إلى تبنّي مقولة الشاعر الإنكليزي رديار دكيبلنج الشهيرة “الشرق شرق والغرب غرب” ولا يمكن أن يلتقيا، وتأسيساً عليها يرى هولاند أنه لو لم يتح  لقوات الإمبراطورية الإغريقية أن تنتصر على جيوش فارس منذ أكثر من ألفي سنة، لما قامت حضارة أوروبية واستمرّت بإبداعاتها الفلسفية والعلمية، لأن (استبدادية الشرق) كانت قد أتت عليها وأجهضتها في المهد، ومن وجهة نظر هولاند فإن قيام قوة مشرقية أو إمبراطورية قوية في الشرق يعني سقوطاً موازياً لقوة غربية والعكس صحيح. من هنا نجد التفسير لحالة العداء والخصومة التاريخية التي واجهت بها الإمبراطوريات الغربية كل المحاولات التي قام بها الشرق لإسقاطها أو الحدّ من اندفاعها ومدّ نفوذها غرباً أو شرقاً، وهذا كان حال الإمبراطورية العربية والإسلامية والفارسية والسلطنة العثمانية وصولاً إلى محاولات محمد علي باشا الذي حلم بإقامة دولة عربية جناحاها ورافعتها مصر وبلاد الشام، وكذلك وأد مشروع النهضة العربية ومحاربة التيارات القومية العربية، محاولاً ضرب مرتكزات الفكر القومي العربي.

إن ما يطرحه هولاند ومن قبله صموئيل هاتنغتون وبرنارد لويس وليو شتراوس صاحب نظرية الكذب النبيل الذي يرى أن النخب يجب أن تقود الرعاع من خلال إثارة العامل الديني واستحضار التاريخ المعشعش في أذهان العامة، هؤلاء وغيرهم من معبّدي الطرق للاتجاهات الفكرية المتطرّفة في الغرب وحافري أخاديد الكراهية بين الشعوب، هم الذين يسعّرون نار الحروب الثقافية وهم الأشد خطراً من غيرهم من الساسة الذين يركبون موجات اليمين المتطرّف الصاعد راهناً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ما يمهّد لثقافة الكراهية ورفض الآخر المختلف، ولا شك أن خطاباتٍ استفزازيةً وعنصرية كهذه سيقابلها بشكل تلقائي ردّة فعل عنيفة إن لم تكن أشدّ عنفاً، سواء عبر الحقن الديني أم التربوي الإعلامي أم عبر الخطابات المنبرية الأخرى.

لقد حذر المفكر العربي الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد قبل عقود عدة من ثنائية أو أقنومية شرق وغرب تقود إلى مزيد من التعصب والكراهية حاول الفكر الاستشراقي تجذيرها في الوعي الجمعي والخطاب الغربي على قاعدة المركزية الأوروبية وما سمّي رسالة الرجل الأبيض (وتفوق) العرق والإنسان الغربي، محذّراً من تداعياتها وآثارها الكارثية على الحضارة الإنسانية والغرب على وجه الخصوص، وهنا تبرز الحاجة إلى أهمية إعادة النظر بذلك الخطاب العنصري التحريضي وغير الإنساني والابتعاد عن التمحور حول الذات الأوروبية والتعالي على الآخر، لأن تاريخ الحضارة الإنسانية -وهذه مسألة لا تخضع للنقاش – هو خلاصة للتجربة الإنسانية منذ أن وجد الإنسان على هذه البسيطة، وهي أشبه ما تكون بسباق التتابع أي الانتقال من مركز إلى آخر، ولكن في مضمار إنساني واحد متفاعل.

د. خلف المفتاح