الأديبة الأردنية سميحة التميمي: تعلُّم التفلسف هو تعلّم الموت
غالية خوجة
سميحة التميمي شاعرة وروائية أردنية تحيا يومياتها كما تكتبها: “أيتها الحياة.. لو تركتِ له حلماً واحداً، حلماً واحداً فقط، سيغرق الأرض بالنشيد وتجفّ الدماء”، هكذا، وبشفافية ذاك الحلم تحوّل الحياة إلى لحظات من كلمات تتشابك دلالاتها لتكون قصائد تسردُ تأملاتها في مجموعاتها بين الرومانسية والحلم والواقع والحكمة والصورة والمشهد وتجد حلولاً خرافية للمعوقات، وتبدو قصائدها مثقفة بالفلسفة والأساطير والملاحم وتراث الشعوب، فيحضر “سيزيف” المعاصر كما يحضر التاريخ بذاكرته والطبيعة على غير عاداتها: “وعندي غابات بلا وحوش، وسيزيف بلا صخرة”، وتسافر مع العشق كما تحطّ مع الطمأنينة في بحيرة لا مرئية، أو في صحراء يعبرها السندباد، أو تعبر مع وسائل التواصل الاجتماعي: “عندي يوتيوبيات وأساطير مذهلة”، أو تنشئ معادلة بين انخفاض الفناء ليرتفع الوجد إلى البقاء: “فاخفضوا صوت دنياكم قليلاً أيها الساهرون”، ولربما ظلّت تلك الشخصية التي ينجذب إلى معرفتها القارئ: “عزلوني من الينبوع، وحصدوني من السنبلة”.
بينما تبرز في روايتها الأولى “المرتزق رقم 9” شاعرية السرد وشعرية العناصر والعوامل من مونولوغ وديالوغ وأحداث وتصاوير مكانية وأحداث متمحورة حول الحرب وويلاتها وتسليع الإنسان حتى المرتزق، خصوصاً، في الحرب، متسائلة عن الجانب الإنساني في هذا الجانب المظلم من العالم، معتمدة على اللغة بحالاتها الرومنسية، المتسائلة، الوجدان داخل الحرب.
حول تجربتها وبدايتها، تحدثنا: “حفيدة جرير التميمية، وحكايتي مع الشعر بدأت من كنف العائلة لكون أبي يحفظ الشعر النبطي والفصيح، وعمي شاعر، وبيئتنا مناظرات شعرية عائلية وقبلية ناتجة عن انتمائنا للجد الشاعر جرير، وكنتُ أخوض وأنا في السابعة من عمري المناظرات وأفوز حتى على الكبار، وبدأت بكتابة القصيدة الأولى العمودية، وكتبت الومضة والهايكو، ولديّ خمس مجموعات شعرية منها “ملحمة العطش”، و”عشرون سيرة ذاتية للقهوة”، و”وتريات غجرية”، ورواية.
وتضيف ضاحكة: “لو كان جدي جرير في هذا الزمان لرمانا مع أشعارنا في البحر، وعلى الرغم من ذلك، ألعبُ في اللغة ودلالاتها وأمنحها حالة من التأمل الروحي والتصويري والفلسفي والصوفي”.
وعن روايتها واختيارها عنوانها وبطلها، تقول: “في البدايات كنتُ أقرأ وأقلّد حتى إنني كتبت كتاباً على غرار كليلة ودمنة وسمّيته “نملة وجروة”، وكان أن أخافني نباح الكلاب ليلاً فصببتُ جام غضبي عليها، ولطالما نصبت كمائنَ للقطط في الكتابة لأن عيونها كانت تخيفني ليلاً، على الرغم من أن مصادرنا الأدبية كانت قليلة ومع ذلك قرأنا الشعر الجاهلي والعباسي والموشحات، وفي طفولتي شاهدت وأيام الأبيض والأسود مسلسلاً أجنبياً تلفازياً عن أحد المرتزقة، وكنت أقرأ ترجمته العربية على الشاشة، فشدّني وتعاطفت معه من الناحية الإنسانية، لأنه في النهاية إنسان، والإنسان بكل ظروفه يعاني الآلام والحروب وهو ما قدمته في الرواية التي جاءت لغة وفلسفة وشعراً وسرداً بحثاً عن الإنسان والسلام، أمّا عن “بهيجة العربي” وكل رموزها ودلالاتها كمعشوقة وسلاح فهي موجودة في كل مكان”.
ترى، ماذا عن ذاتك الكاتبة في أعمالك؟ وما رسالة الدلالات المشتبكة بين الفلسفة والشعر والحب والموت والحرب والرمز؟ تجيب: “كلّ كتاباتنا فيها منا، والرمزية تحتاج إلى متأمل وعارف باللغة وما وراء الطبيعة، أكتبُ مع احتفاظي بطابعي الديني والصوفي، وتعلُّم التفلسف هو تعلّم الموت، وبعد كل موت هناك حياة حتى في الموت الحقيقي، لذلك، نموت لنحيا والموت تذوق: “لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى”، وفي كل فصل من الرواية أبكي أثناء الكتابة والقراءة، وموضوع الارتزاق تطرق إليه كتّاب كثيرون، لكنني الكاتبة العربية التي كتبت عنه رواية وبكت مع أهالي وأمهات المرتزقة العائدين من المعركة وكيف تكون الأمهات عندما لا يجدنَ أولادهن بين العائدين، ولقد ركزت في الرواية على “الاستنكاف الضميري”، نحن بشر، وبعد دخول المرتزق الحرب وقتله للناس من أجل اللاشيء يصحو ضميره، ومرتزق الرواية يدخل في مرحلة صحوة الضمير، وهذا ما أريد إيضاحه والتركيز عليه، وأسلط الضوء على الضمير البشري الذي سيصحو في أي وقت، حتى بعد الحروب، بعد أعتى الحروب، لأن الفطرة الإنسانية هي المحبة والطمأنينة وليست الحرب والتدمير والقتل”.
أمّا عن تراسل الحواس وتداعياتها وتوظيفها في كتاباتها، فقالت: “الألم الذي أكتب فيه قصيدتي هو أنا، والمكان الذي يشاركني القصيدة هو أنا، وإنني أنظر إلى جمالية نصي من خلال التواصل الحميم بين اللغة والروح، ومرة كتبت قصيدة وقلت بعدها: أتمنى لو أنني أعرف خمسين لغة لأقرأكِ بها، وأكتبكِ بها”.
وتضيف: “معظم ما كتبته يحاول تفسير ما حولي، وربما هو أحد أسباب ولعي بالزوايا المهمّشة من التاريخ والبؤساء والمجانين الذين كتبت كثيراً عنهم وعن الجنون، كأنني أحاول كتابة التاريخ بشكل أكثر موضوعية ومنطقية وإقناعاً، لذلك، كان صوت الراوي العليم أو السرد في روايتي أعلى وكأنني في مجلس عام للسمر الأدبي، فصرتُ أواكبُ فصولها وأحلّل دلالاتها وأشرح مواقف الأبطال فيها، وأشارك القارئ في حيرته تجاه بعض الأحداث وتفاصيلها، ولم أكتبها بناءً على حكاية مروية ولا قصة سابقة، إنما هي مونولوغ تحول إلى ديالوغ أصافح به القارئ من خلال مرافعات روحية شفيفة، لكنني أنوّه بأن الحماسة الفكرية وقوة اللغة لا تكفي وحدها لخلق أثر أدبي، بل لا بدّ مع ذلك من أقباس روحية تخيلية تشعل خمود العقل وتنصف الأدب”.