بين “جسر الجوزة” و”أغاني الكراجات”
نجوى صليبه
لسنوات طويلة كان المسافرون، بين المحافظات السّورية، على متن شركات النّقل والسّفر على موعد مع عرض مسرحي أو فيلم، يبدأ حين ينطلق “البولمان” وينتهي بوصوله إلى المحافظة المنشودة، هذا في حال كانت مدّة الفيلم أو العرض المسرحي تساوي المسافة بين المحافظتين، أمّا في حال كانت أقل فكان يُتبع بباقة من أغنيات الطّرب الجميل، ومع أنّ بعض شركات النّقل والسّفر كانت تعيد الأفلام ذاتها على مدار العام، كان الرّكاب يتابعونها بشغف وحبّ وسخرية وربّما استسلام لقائد الرّحلة، أمّا اليوم فما عاد للرّائي أو “شاشة التّلفاز” في “بولمان السّفر” أي فائدة مثلها مثل نافذة أغلقها صاحب البيت بحجارة ولم يطليها بعد لتتماهى ولون الجدار، فقد صار لكلّ مسافر رائيه الخاصّ وأغاني “الكراجات الخاصة به” التي قد يفرضها على الرّكاب الآخرين لأنّه نسي “سماعاته” في المنزل أو لأنّ أطفاله يشاهدون المقاطع المصورة التي يحبون بصوتٍ عالٍ، لنصبح بذلك تحت رحمة وسيطرة العديد من الأشخاص لا رحمة وسيطرة قائد الرّحلة فقط.
نعم غابت “أغاني الكراجات” عن كراجاتها، كما غابت غيرها عن شوارع مدننا وأريافنا وساحاتنا، ومعها غاب الفرح والنّوادر التي كانت تروى حولها والتّعليقات السّاخرة والضّحكات، أقول هذا مع أنّي لم أكن يوماً من محبي هذه الظّاهرة، بل كنت من منتقديها، لكن اليوم وأنا أسير مع السّائرين إلى لقمة عيشهم، وأراقب الوجوه الحزينة والعيون الصّامتة، أفتقد الحالة التي كانت تصنعها تلك الأغاني.. قد تحمل هذه الكلمات القليل من التّناقض، لكن هكذا هي النّفس البشرية، أقول هذا وأتذكّر بسخرية أنّ موضوعاً آخر أزيح من أمام الصّحفيين المتخصّصين بالمجالين الخدمي والثّقافي والذين كانوا وكما يقال كلما جفّت أفكارهم تحدّثوا عن “أغاني الكراجات”.
في قتل الثّقافة
لا ينفصل ما سنقوله تحت هذا العنوان عمّا سبق ذكره، فالسّلوك الإنساني ليس إلّا ترجمة لثقافته، ولا نقصد هنا بالثّقافة كمّ الكتب التي قرأها، إنّما ثقافة الحياة والطّعام والشّراب، أي ليس من الثّقافة التّباهي بعبارة “أنا حرّ” وأمارس هذه الحرية من دون مراعاة الآخرين، وهذا أيضاً يقودنا إلى أساليب وطرق بثّ الاحترام والحبّ والأخلاق من خلال جميع الوسائل الإعلامية المعروفة بأهليتها وقدرتها على التّصدّي لهكذا مهمّة صعبة وخطرة، تحديداً الحكومية، صحيح أنّها تقدّم بعض البرامج التّوعوية والتّثقيفية لكنّها ما تزال دون المطلوب، في ظلّ هذا التكاثر الرّهيب للمنصّات والصّفحات التي تدّعي الاهتمام بالشّأن الاجتماعي والأخلاقي، ولاسيّما أنّنا خارجون من حرب قذرة عاش تبعاتها الصّغير قبل الكبير.
ما قادني إلى هذا الحديث هو تفريغ البرامج الصّباحية، تحديداً الإذاعية، من مضمونها المحلي والثّقافي وفي بعض الأحيان التّوعوي، فمن غير المعقول أنّ تخصّص أكثر من عشر محطات إذاعية كلّ يوم ساعة كاملة من بثها من أجل الحديث عن لعبة كرة قدم في بلد آخر لا يعرف عنّا شيئاً ولا يكترث لشهدائنا ولا حروبنا التي كانت بلده سبباً فيها، ثمّ “نتقاتل ونتضارب ونحرد” من أجل هذا الفريق الذي يعيش أعضاؤه في نعيم، ونحن بالكاد نشحن هواتفنا النّقالة لكي نشاهدهم، ومن غير المعقول أيضاً أن نخصّص ساعةً كاملةً للحديث عن آخر طبخة أو مشروب أو سيران أو “خناقة نسوان”، في الوقت الذي كانت فيه البرامج الصّباحية تقدّم زاويةً للحديث عن النّشاطات الثّقافية خلال النّهار والمساء، وسنردّ على من يقول لا أحد مهتم بذلك، بأنّي ومن خلال متابعتي للنّشاطات الثّقافية منذ زمن طويل، كثير من الحضور كان يصرّح بأنّه سمع خبراً عن النّشاط في الإذاعة أو التّلفزيون، طبعاً حين كانت البرامج الإذاعية تقدّم معلومات علمية وثقافية وفنّية ومقابلات ونقاشات ومواضيع أخرى كثيرة، مع التّذكير بأنّ جيلاً كاملاً مثقفاً استمدّ ثقافته ومعرفته من هذه البرامج التي كانت تبثّ على وسائل الإعلام الرّسمية.. فلماذا نسير دائماً وفق قاعدة “الجمهور عاوز كدا” لا أعلم!.
في المسميات
على متن الرّحلة القادمة من اللاذقية إلى دمشق، طلب أحد الرّكاب من السّائق أن يتوقف عند “جسر الجوزة”، وتساءل الأخير: “أين يقع هذا؟”، سأل مرافقه وسأل الرّكاب جميعاً، لكن لا أحد يعرف أين يقع هذا الجسر، حتّى أنا التي اعتدتُ السّفر عبر هذا الطّريق مذ كانت في الثّامنة عشرة من عمري، والتي يقول عنّي أصدقائي إنّي أعرف المدينة أكثر من أهلها.. موقف ذكّرني بمواقف كثيرة كان يسأل أبطالها عن شوارع وحارات تسمّى بأسماء أدباء وعلماء وسياسيين كان لهم دور بارز في المجتمع السّوري، وهو الأمر الذي اشتغلت عليه المؤسّسات المعنية قبل الحرب بسنوات كثيرة، كتسمية شارع باسم القوتلي، أو حديقة باسم الفارابي، وعلى ما يبدو مذ ذاك الوقت ذهبت هذه الجهود سدى، فما تزال الشّوارع تسمّى باسم حلّاق الحارة أو مطعمها أو عائلة من عوائلها، تماماً كما غنّت فيروز لجسر “اللوزية”، وكما استبدل كتّاب الدّراما والسّينما اسم مدينة دمشق بالشّام، أذكر أنّي أوّل مرّة سمعت كلمة دمشق على لسان بطل أحد الأفلام المصرية وهو يقول إنّه مسافر إليها، شككت بسمعي وانتظرت أن يتكرّر الاسم مرّة أخرى، وهذا ما حصل فعلاً، تفاجأت وفرحت وحزنت لأنّنا نسير بشعور وبعدمه وفق الدّارج فقط.