دراساتصحيفة البعث

قراءة في كتاب “الحرب والإستراتيجية في القرن الـ21”

بشار محي الدين المحمد

كتاب “الحرب والإستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.. تحديات دولية.. أسلحة مستقبلية.. أي طموح لفرنسا” لـ”كريستان ماليس”، وترجمة الدكتور علي حبيب- كتاب يحوي مجموعة مقارنات عبر العصور والأزمنة والحضارات والثقافات حول مفاهيم الحرب والسلام والصراعات والمقاربات الممكنة لحلها.

لا نعلم إن كان ماليس قد حاول البحث بحيادية ضمن هذا الكتاب، لكن من الواضح أنه كان متأثراً بالمركزية الغربية إلى حدّ قد يقارب الشوفينية والتعالي على بقية الشعوب -العربية والشرقية على وجه الخصوص- كما لاحظنا عدم التوفيق في اختيار المصطلحات ووصف المواقف والحالات بدقة، حيث تاه الكاتب في إنصاف المقاوم للغزاة، وصور التكفيري على أنه خطر على العالم دون أن يصوّر جانباً آخر يتمثل في انقلاب أفعى التكفير على الأمريكي الذي رباها كما فعل بن لادن.

لم يكن الكاتب موفقاً أيضاً في مشاهد توصف حالة تراجع السلام، حيث اختار أمثلة فردية -على غرار قنوات الخريف العربي- وتحدث عن ألمها وحزنها بإسهاب، فكيف إذا عرفنا أنه يتحدث عن ضابط في جيش الاحتلال أُصيب برصاصات المقاومة الوطنية اللبنانية في حرب تموز عام 2006، متابعاً وصفه لمشهد مشابه يتمثل بسقوط سبعة قتلى للجيش الفرنسي في أفغانستان، أو قتلى ومحاصرين لقوات الغزو الأمريكي للفلوجة عام 2003، وكأنها قوات جاءت لنشر السلام والورود تحت شعار “القضاء على الإرهاب”، متناسياً أن تلك القوات وجّهت الإرهاب وأدارت الصراعات معه ونمّته، بدليل انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بعد عقدين من حرب الـ”لا غالب ولا مغلوب” التي تنتهجها أمريكا للإبقاء على التوتر والإمساك بزمامه.

ويبدي الكاتب نوعاً من اليأس من عالم “غير مسالم” فيه بنادق توجه نحو القوات الغربية رغم العولمة والمبادلات العالمية التجارية، ليتحول هذا العالم إلى ساحة صراعات غير محمودة العواقب بين القوى الكبرى.

من جهةٍ أخرى سلّط الكاتب، ماليس، الضوء على مدى التغير الذي تشهده الجيوش، فالجيش الأمريكي الذي غزا العراق كان جلّه من المرتزقة والروبوتات والآلات، والمعارك باتت تدار عن بعد من خلف الشاشات أو عبر المسيرات، ولم نعد نلاحظ جيوشاً متحاربة وجهاً لوجه، كما تحدث بقلق عن نجاح تنظيم “القاعدة” في اجتذاب مريدين له عبر شبكة الانترنت دون البحث في تمويل وخلفية هكذا تنظيم.

وعاد الكاتب إلى جادة الصواب حينما سلط الضوء على مشهد إلقاء جثة “بن لادن” في البحر، وما رافقها من إعلان عن بداية إستراتيجية أمريكية جديدة على لسان أوباما تتضمن: الانسحاب من الهدف المزعوم السابق “القضاء على الإرهاب” إلى هدف جديد أكثر غباءً وهو “التوجه نحو الهادئ”، ليركز على ظاهرة قديمة تعيشها هذه الدولة كانت قد عاشتها عدة إمبراطوريات سابقة “التوسع الاستعماري المفرط”، والذي لا بدّ وأن يقضي عليها كإمبراطورية بالغت بالتمدّد بالمقارنة مع قوة اقتصادية لا تتعدى الـ16% من حجم الإنتاج الصناعي العالمي.

أما فرنسا فيحاول الكاتب تصويرها كقوة تتجه نحو إرساء السلام بعد ماضٍ من الحروب في الجزائر وفيتنام وغيرها -دون التعريج على طبيعتها الاستعمارية- حيث يشرح معاناتها في مضمار تعرض قواتها لهجمات من “تنظيمات إرهابية” ودون أن يحدّد التوصيف الدقيق لتلك “التنظيمات” أو إبداء وجهة نظره في أحقيتها بطرد القوات الغازية عن أرض بلادها، كما أظهر، الكاتب ماليس، قلقه على تلك القوات التي فوجئت بانتهاء حقبة الحرب التقليدية “جيش في مواجهة جيش” لتنمو وتطور حركات تتبع قواعد مغايرة ولا يهمّها أي قانون أو قواعد في سبيل الدفاع عن بلادها.

تحدث الكاتب ماليس من زاوية أخرى عن سبب جوهري لفشل الحروب الغربية “الخاطفة” والتي يتمخض عنها سقوط سريع ومدوٍ للدولة أمام ضربات جيوش الغرب خلال أسابيع، كما الحال في العراق وأفغانستان- دون أن يذكر سنوات العقوبات والحصار ونشر العمالة التي تسبق تلك الحروب، لكنه- وللإنصاف- أكد أن هذه الجيوش أسقطت الدولة، لكنها فوجئت بشعوب لا تريدها على أرضها، ولديها الاستعداد للدفاع بشكل مستميت ضدها.

ثم يناقش الكتاب فكرة اختفاء الحرب ونظرية القفل النووي، وفيما إن كانت قد حققت بشكل فعلي السلام، مبيناً في الوقت نفسه أن هذا “القفل” لم يحدّ من توجه أمريكا لصراع مع دول “بريكس”، وصراعات “فرعية” مع دول مثل الصين، أو صراعات من خلف ستار حيث يجلس الأمريكي بعيداً عن الأنظار، مثل عدوان “الناتو” على ليبيا، واصفاً نمو أشكال متعددة من الهجمات مثل السبرانية، وأخرى تشبه “توجيه بضع لكمات سريعة للخصم” والانتقال بعدها نحو “جَنْي الأرباح”.

كذلك تحدث عن اختلالات أمن الطاقة، ولاسيما في الدول العربية والإسلامية، وذلك بفعل النمو الآسيوي الهائل للطلب على النفط، وتقارب تلك الدول الصاعدة مع بعضها ضد أمريكا وآلتها التي تحاول الهيمنة على هذا القطاع برمته، وبشكل أعاد إحياء هدف أمريكا المزعوم في “القضاء على الإرهاب” والعودة نحو الشرق الأوسط وإفريقيا، مع تمدّد وتغلغل نحو آسيا الوسطى.

وخلال بحثه عن صراعات الهوية وتأثرها وتفتتها بفعل الإنترنت وكسرها للحدود والمحيطات والجبال الشاهقة، ارتكب، ماليس، خلطاً جديداً، عندما ادّعى أن “الربيع العربي” أثار إعجاب الشعوب بالتنظيمات المتأسلمة، معترفاً بأن شكلها التنظيمي غربي بحت يتمتع بتمويل كبير.

وفي سياق آخر، نوه الكاتب، ماليس، بخطر المجمع الصناعي الفردي، الذي يحاول خلق أعداء لتحقيق مصالحه، مبيناً أن من أخطر خطواته صنع عدو من الصين، ومحذراً من تأثير ذلك على “الديمقراطية الأوروبية” التي يفترض أن تكون قد حققت نضجاً ووعياً كافياً بعد آلام الحربين.