تحقيقاتصحيفة البعث

السوريون لا يزالون في مرحلتي الإنكار والغضب .. ويرفضون الاعتراف بتراجع القدرة الشرائية لليرة!

علي عبود

لا يزال موضوع الأسعار والأجور الشغل الشاغل للسوريين ومعهم عدد كبير من “المنظّرين والمحللين الاقتصاديين” دون أن تعترف غالبيتنا أننا في أوضاع استثنائية لن تتغيّر في الأمد المنظور، مع غياب أيّ رؤية أو خطط عملية لتحسين القدرة الشرائية.

نعم، على مدى السنوات الماضية انشغل السوريون، وجاراهم عدد كبير من “المنظّرين والمحللين” بالحديث عن الارتفاع الجنوني بأسعار المواد الغذائية واللحوم والفروج والحلويات وألبسة الأطفال مقارنة بالدخل الشهري الضئيل الذي بالكاد يكفي ليومين، وقلة منهم فقط اقترحت حلولا عملية، بل وأشرفت على تنفيذ بعضها وكانت ثمارها أكثر من جيدة، ولكن ما من جهة حكومية تبنتها وعممتها!

وما حدث منذ عام 2011 أن السوريين مثل إنسان يرفض تصديق فقدان شخص عزيز جداً كان محور حياته اليومية، هم يرفضون على مدى الأعوام الـ 13 الأخيرة تصديق إن القوة الشرائية لليرة السورية لن تعود إلى ما كانت عليه ما قبل عام 2011 إلّا بمعجزة لن تتحقق بردات الفعل والأماني والتمنيات.. إلخ.

وفي هذا السياق من التعاطي الانفعالي مع موضوع الأسعار والأجور، من المفيد استحضار نموذج المحللة النفسية الأمريكية السويدية “إليزابيث كيوبلر” التي كشفت عن مراحل الحزن الخمس في كتابها عن (الموت والوفاة)، وإسقاطه على “موت” القدرة الشرائية لليرة السورية وهي: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والقبول.

معجزة اقتصادية!

ولو استعرضنا ما يُنشر في الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، سنكتشف أنها تلقي بمسؤولية عجز الأسر عن تأمين احتياجاتها على الأسعار المرتفعة مقارنة بالأجور الضئيلة، ولكن ما من جهة حكومية أو خاصة تعاملت مع مراحل ما بعد “الموت” فالكل لا يزال يعيش في مرحلة الإنكار، أو في مرحلة الغضب في أحسن الأحوال، ولو وصلنا إلى المرحلة الخامسة أيّ القبول بأن القوة الشرائية لليرة لن تعود إلى ما كانت عليه قبل عام 2011 إلا بمعجزة اقتصادية، لقامت الحكومة الحالية أو الحكومات الجديدة لاحقا بالعمل على آليات تزيد دخل الأسرة وقطعا الزيادة “الورقية” للأجور ليست واحدة منها!

دعونا نقوم بإسقاط مراحل الصدمة النفسية الخمسة التي يتعرض لها من فقد عزيزا ، على السوريين الذين تعرضوا لصدمة نفسية جراء موت القدرة الشرائية لليرة.

مرحلة الإنكار: 

يمكن تشبيه المرحلة الأولى بالصدمة ومحورها الإنكار فالكل يكابر ويكرر عبارة (أوضاعي المعيشية بخير لا يمكن أن يحدث هذا لي)، وهذا الإنكار الذي عززه قدرة الأسر السورية في الأعوام الثلاثة الأولى على المواجهة، لم يكن سوى دفاع مؤقت على أمل تحقيق الوعود الحكومية المعسولة بأن سعر صرف الليرة  سيتحسن قريبا جدا وسيبقى سعر صرفها مادون 300 ليرة أمام الدولار.

مرحلة الغضب

وخلالها يتساءل من تعرض للمأساة: لِمَ أنا؟ هذا ليس عدلاً.. كيف يحدث هذا لي؟.. من الملام على ذلك؟

وقد استغرقت مرحلة الإنكار أكثر من عشر سنوات للانتقال إلى مرحلة الغضب، وتحديدا بعد تدهور سعر الصرف من 3 آلاف إلى أكثر من 13 ألف ليرة (رسمياً)، فملايين الأسر السورية دخلت مرحلة الغضب بعد عجزها بدخلها الضئيل جدا شراء مستلزمات عيشها اليومي، وربما تأخرت فترة الانتقال إلى المرحلة الثانية بفعل اعتماد الكثير من الأسر على الحوالات أو المساعدات، لكن لم تعد الحوالات بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، ولا المساعدات الداخلية كافية لسد احتياجات السوريين؟

مرحلة المساومة

هذه المرحلة محورها الأمل وفيها يخاطب الفاقد ربّه: فقط دعني أعيش لرؤية أطفالي يكبرون سأفعل أيّ شيء من أجل أن تعود لي حياتي السابقة.. أليس هذا حال ملايين السوريين هذه الأيام فهم مستعدون لفعل أيّ شيء لاستعادة قوتهم الشرائية، وبالتالي يتوقعون من الحكومة أن تعمل بكل إمكاناتها كي يتاح لهم العيش بالحد الأدنى من مستلزمات الحياة اليومية.

مرحلة الاكتئاب

هذه أخطر مرحلة يمر فيها من فقد عزيزا كان محور حياته وفيها يردد: سأموت على أيّ حال، ما الفائدة من أيّ شيء سأفعله؟.. لقد رحلت .. لماذا أستمر بعدك؟

في هذه المرحلة يصبح الإنسان أكثر صمتا ويمضي الكثير من الوقت في البكاء، ويميل إلى الانعزال عن الآخرين.. إلخ.

نعم، من المؤسف إن السوريين لم يصلوا إلى مرحلة الاكتئاب ليعترفوا بأن القدرة الشرائية لن تعود إلى الليرة كما كانت من قبل، ربما بفعل الحوالات والمساعدات، مع إن هذه المرحلة  ضرورية جدا للانتقال إلى المرحلة الأخيرة من التعافي النفسي!!

مرحلة التقبل:

وفيها يتعافى الإنسان من أثار المصيبة أو المأساة التي تعرض لها فجأة، ويقتنع بالواقع ويتطلع للمستقبل ويقول جازما: ما حدث قد حدث، ويجب أن أكمل الطريق، لا فائدة من المقاومة، من الأفضل أن أستعد لما سيأتي..

في هذه المرحلة يتقبل الإنسان الوضع الجديد، وتزول مشاعر الألم وهي نهاية الصراع مع الفقد، والانطلاق لمرحلة التأقلم مع ما حصل.

وبما أننا في وضع يطال الملايين، فإن تجاوز مرحلة التقبل تتطلب تدخلاً فعالاً من الحكومة تبتكر من خلاله آليات غير مسبوقة لتحسين الدخل بغض النظر عن موت القدرة الشرائية لليرة كما كانت عليه ما قبل عام 2011.

في أي مرحلة نعيش الآن؟

بما أن المعالجة الحكومية غائبة حتى الآن، على أمل أن تباشر بها الحكومة الجديدة، فإننا سنجد كل الحالات النفسية في المجتمع، فشريحة لا تزال في مرحلة الإنكار، وثانية في مرحلة الغضب وثالثة في مرحلة الاكتئاب أو المساومة، في حين أن القلة تقبلت تآكل القدرة الشرائية لليرة، وأسست مشاريع صغيرة أو متناهية الصغر لتحسين دخلها وتأمين أكثر من مستلزمات حيلتها اليومية.

بالمختصر المفيد:

ننتظر من الحكومة الجديدة التي ستتشكل قريباً أن تنقلنا سريعا من مرحلة الإنكار أو الغضب إلى مرحلة تقبل “تآكل” القدرة الشرائية لليرة كما كانت عليه ما قبل عام 2011، وتقديم دعم لا محدود وتسهيلات وتحفيزات للأسر السورية لتأسيس مشاريع صغيرة ومتناهية الصغر تتيح لها تحسين دخلها من جهة وتعزيز قدرات الاقتصاد الوطني بإنتاج بدائل المستوردات، إلى جانب دعم القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية من جهة أخرى، فهو الطريق الوحيد ليس لوقف تدهور سعر الصرف فقط، وإنما لتحقيق الأهم أيضا وهو زيادة القدرة الشرائية!