ثقافةصحيفة البعث

“الفن بين التجريد والتجسيد” من منظور محمود نقشو

حمص ـ سمر محفوض

كان الفن بين التجريد والتجسيد حاضراً في كلمات الكاتب الشاعر محمود نقشو الذي تناول بدقة الفرق بين المنهجين في الأدب والرسم والفنون الأخرى، مسلطاً الضوء على العلاقة بين التجريد، عبر التاريخ، مع التجسيد، ولافتاً إلى الجدل الدائم في محاولتيهما البحث عن الحقيقة، لتوفير الشعور بالأمان وحسم الخلاص، فارتبط بالطبيعة والغريزة والمتعة، والألم أي المحسوسات بالتجسيد.
وفي المحاضرة التي أقامتها جمعية عاديات حمص بالتعاون مع المركز الثقافي في حمص، أشار نقشو إلى أنّ الذهن باستنتاجاته يميل إلى الاستخلاص والاستنتاج والفهم والاستنباط والتعديل للتحكم بالفكر والقول، فكانت أولى محاولات التجريد مع بداية القرن العشرين في العالم، والذي تأثر مع الأشكال الأدبية الأخرى بالأحداث السياسية والحروب العالمية وسقوط الكثير من المقولات والنظريات، بالتزامن مع النقلات العلمية، ما أسهم في دفع اللغة لوناً وكتابةً لتكون المعنى الذي طور مسار الإنسانية من التجسيد إلى التجريد، ومن المكونات البسيطة إلى المركبة، ومن الحسي إلى الرمزي، ليصل النقاد في القرن العشرين إلى حقيقة مفادها أن التجريد هو الفن الذي لا يحافظ على الحقائق أو الصورة، بل يحرفها، بينما الواقعية هي التي تحتفظ بالشكل وتقدمه من دون تحوير أو تشويه مهما كانت دوافع ذلك.
تستمر العلاقة التاريخية بين التجسيد والتجريد في جدل مستمر حتى مطلع القرن العشرين لاستخلاص نتيجة تقول إن الظاهر المرئي لا يعكس قوام الواقع، بل أعراضه الخاضعة للتبدل والتغير- وفقاً للكاتب نقشو- ما دفع إلى تحطيم المظهر الخارجي للفن بحثاً عن الأعماق المتوالدة، فبدأت تنهار نظرية “الزمان والمكان” ضمن العمل الواحد، كذلك نظرية التشابه الظاهري بين الظاهر المرئي والعمل الفني.
ويرى الكاتب أنه انطلاقاً من هذه الثورة على المحاكاة التسجيلية، قام الفنان بثورة فكرية على مستوى المضمون، مستفيداً من الشكلية الفنية بداية القرن العشرين، ليقدم عملاً فنياً متطوراً في الشكل، ومعبراً في المضمون عن العصر كشاهد وثائر عليه محرض على تغييره في آن معاً.
وعرّف نقشو، رئيس رابطة الخريجين الجامعيين في حمص، السريالية بالقول: “إنها فن يقع بين الحلم والواقع الحقيقي، وإن التعبيرية عالم الفنان الذاتي أكثر حقيقية من مظهره، وبدورها، أشارت التكعيبية إلى الواقع الحقيقي، أي الواقع الهندسي المعماري الذي يعني بناء الواقع وقوامه، بينما ذهب البنائيون إلى أن الواقع هو الميكانيكي الحركي عبر لوحات آلية، قدمت عالماً من الآلات.. وهكذا يتضخ أن كل تيار فني سعى لكشف معنى الواقع كما يراه أو يستنتجه من مجموعة محاولات وأهداف تسهم في تأكيد فكرته.
وبما لا يقبل الشك، يردف نقشو: “تراجع الرسم مذ اختراع الكاميرا ليعيد تعريف نفسه، حيث استطاعت الكاميرات تصوير ورسم وتظليل وإضاءة وتغيير الألوان والإيحاءات في المشهد المصور كما تشاء، لتظهر عقبة الرفض عند من اعتاد على مفهوم “الجاذبية تملأ الفراغ” ممن لن يتقبل موت الرسم في الفنون كما يحدث من تمسك بالرونق في كل الآداب الإنسانية”.
وكان لما ما قام به رسامو النهضة من اكتشاف قوانين المنظور الفني وتدمير هذا المنظور بعد أكثر من أربعة قرون من نشأته، حيزاً مما استعرضه نقشو، إذ بيّن أن ذلك جاء في سياق التحرر من نتاج الأمس، لكي يعبّر الفن عن نفسه بلغة ملائمة، ويحكم عليه بذاته بتوافقه وانسجامه وجمالياته، بالانزياح الذي يحدثه العمل الفني، وبقدرته على الشدو الجذاب، وعبر الجديد الذي يقدمه، والانعتاق والتجلي بلغة عصره سواء كان نصاً لونياً أو مكتوباً، فالحكم هنا يبقى، للإحساس الجمالي والدهشة، بالمعنى الذي يحول الفنان إلى مقترحٍ لرؤية نظر جديد، ودفعه نحو الاكتشاف.
فالتجريد إذاً ـ وفقاً لرؤية نقشو ـ تجلى في الإقامة خارج المرئي عبر تظهير طاقته الإيقاعية والمجازية والفنية، وبامتلاك القدرة على ابتكار الواقع والفرار مما يسمى المحاكاة، حيث يتربع التجريد آخر مواليد الفن وآخر مدارسه وخلاصة كل عصور الرسم، وهو أثرى ويثري الفن وحياة الناس بأشكاله سواء المستعارة من المحيط، أم المستخرجة من الأعماق الدفينة، ليجد المتلقي في التجريد الفني نفسه أمام الشعرية عالية الصقل، متحرّرة من قيود الشكل، ومفتوحة على فضائه الجمالي الذي يقدم العالم ضمن نسيج من استعارات متناغمة غايتها تغليب الصورة على معناها، مهملاً التفاصيل اليومية، ومركزاً على جوهر المعنى وليس مضمونه، لأن التجريد هو ذاك الاندماج والهروب المستمر من الدلالة عبر تقديم نسيج بلاغي محبوك بمهارة في لحظة الاختصار القصوى الآنية والأزلية معاً.
أما الصورة أو الشكل في الثقافة العربية الإسلامية، وتأثرها بعصر التدوين، فقد بين نقشو مدى إخضاع الإبداع البصري خلاله لعلم الكلام لتظهر مقولات متعدّدة منها مقولة، التشبيه والتنزيه، وهي واحدة من التخريجات الكلامية المشاركة للمقارنة الميكانيكية بين الواقعي والتجريدي، ذاهباً إلى أن التجريد في الحرف العربي فن قائم بحدّ بذاته، ونحن حين نرى النصوص العربية القديمة ونستقرئ عتباتها وكيفية كتابتها والتغني بزخارفها نكتشف أنها تحويل للنص المكتوب إلى فن حقيقي بمختلف أنماطه من خط عربي، وأرابيسك، ونقش، وغيرها من الفنون المميزة الرونق، وهو اليوم يعد من أجمل أشكال الفن التجريدي محلياً وعالمياً ويحق لنا أن نفخر به.
جدير بالذكر أن المحاضر نقشو، شاعر وباحث، ولديه العديد من الدراسات الفكرية والفلسفية والنقدية، منها “نظريات في قفص الاتهام”، و”الإنتروبيا والشعر”، وديوان “خيول فوق بنفسجية”.