دراساتصحيفة البعث

ثقافة القتل والإبادة الجماعية في الفكر الصهيوني

د.معن منيف سليمان

يحتاج الباحث والمتقصّي لجذور ثقافة القتل والإبادة الجماعية في الفكر الصهيوني إلى العودة نحو مصادرها وأصولها القديمة، وإذا كانت معرفة أيّ شيء تبدأ بمعرفة أصوله، فإنّ الرجوع إلى التاريخ اليهودي القديم والتراث الذي خلّفوه حاجة ضرورية تقتضيها طبيعة البحث للوقوف على الحقيقة المبتغاة من منابعها الأصلية. وبما أنّ التوراة أو العهد القديم أوّل مصادر هذا التراث، فلا بدّ من مراجعة أسفار التوراة بجميع نصوصها، فهذه النصوص زاخرة بالأقوال والأفعال التي تعرّي جذور ثقافة القتل وتبيّن أصولها الأولى النابعة أصلاً من منابع توراتية وليست متعلقة بفكر أفراد وقادة سياسيين غلب عليهم الفكر المتطرف.

فمن البذور التوراتية نبتت فكرة القتل والإبادة الجماعية، وتصلّبت واشتدّ عودها بفضل الرعاية الصهيونية التي أرست أوتاد الكيان الإرهابي في أرض فلسطين. وهكذا تعدّ التوراة بما احتوته من نصوص تحريضية ضدّ العرب والأمم الأخرى أساساً للفكر الصهيوني، حيث وجد المفكّرون الصهاينة ما يدعم اتجاهاتهم، ويؤيّد نظرياتهم، فاقتبسوا من التوراة عبارات مفادها أن الرّب اختار اليهود ليكون راعياً لهم من دون سائر البشر، يبيد الشعوب من أمام وجههم حسبما جاء في سفر التثنية.

وعمد موجّهون حاخاميون لاستنتاج النتيجة المنطقية، برأيهم، القائلة أنّ كل الغرباء الذين ينتمون وقت الحرب إلى شعب معادٍ يجوز قتلهم، لا بل يجب ذلك. هذه النزعة الإجرامية التي طلست معظم صفحات العهد القديم بصبغتها، قد استخدمت أساساً للتربية بين أعضاء الجماعات اليهودية، وبقيت عبر مئات السنين محور سلوك اليهود تجاه غيرهم من شعوب الأرض. إذ أن النص التوراتي يوصيهم صراحة ويأمرهم بحزم بقتل الأغيار ويحثّهم بألاّ يدّخروا جهداً من أجل ذلك، وحينما دخل الإسرائيليون فلسطين لأوّل مرّة كان رائدهم القتل والإبادة والتدمير والسلب والنهب مخالفين بذلك كل تعاليم النبي موسى عليه السلام.

إن مراجعة الأسفار التوراتية والتنقيب في نصوصها عن كلّ ما يشرّع منها للقتل والإبادة الجماعية، التي ظهرت بوضوح في أسفار: العدد، والتثنية، ويشوع، والقضاة، وصموئيل، والملوك، وأستير وغيرها يمكننا من الوقوف على طرق الترويج لمبدأ القتل والإبادة الجماعية في التربية الصهيونية من خلال استحضارهم التاريخ اليهودي، وتوزيعهم الكتب والمحاضرات التثقيفية التي تنشرها قيادة الجيش الإسرائيلي، وتوضيح دور المؤسسة الدينية التي يستشهد حاخاماتها بالتعاليم الدينية التي تخوّل اليهود اضطهاد وقتل غير اليهود من الناس بغية تسويغ المجازر في فلسطين وخارجها كمستند ديني لخطتهم الرامية لترحيل أو إفناء كل العرب في فلسطين.

وتظهر النصوص التوراتية الأسس الحقيقية لمعنى الصلح والحرب، فالصلح مع الإسرائيليين يعني التسخير والاستعباد لهم، في حين أن الحرب تعني الإبادة للذكور والسبي أو التحريم بحسب بعد البلاد أو قربها من “أرض الميعاد”. وهكذا ببساطة، إمّا أن يصيروا عبيداً للإسرائيليين بمعاهدة صلح أو يقتلوا جميع الذكور ولو كانوا شيوخاً أو أطفالاً. هذا بالنسبة للبلاد البعيدة، أمّا البلاد القريبة من أرض الميعاد فشأنها أفظع ومصيرها أشنع فليس هناك سوى الإبادة الكاملة رجالاً ونساءً وأطفالاً، لا صلح ولا هدنة ولا تعايش سلمي، وإنّما فقط القتل، وكل ذلك من أجل حماية بني إسرائيل والحيلولة دون وقوعهم تحت تأثير ثقافة الشعوب التي يحتكّون بها.

ففي هذه النصوص أحكام يأمر فيها الرّب إله “إسرائيل” بشكل صريح بإبادة شعب بأكمله ومحو ذكره من تحت السماء، ويلزم بقتل الناس جميعاً شيباً وشباباً ورضّعاً، ذكوراً كانوا أو نساءً فلا فرق مادامت الغاية هي الإبادة وإبطال ذكرهم وقطع نسلهم.

كما تتضمن تحريضاً واضحاً ضدّ كل من يحاول مقاومة اليهود ويكون العقاب هو القتل والإبادة التي يدخل في عدادها الأطفال والنساء وسلب أملاكهم كغنيمة.

واستناداً إلى هذه الأحكام الإجرامية نفذ الإسرائيليون أبشع جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية. فقد روت النصوص التوراتية قصصاً للإبادة التي قام بها الإسرائيليون بحق الكنعانيين، ونجد فيها أمراً إلهياً بالقتل والإبادة فينفذّه موسى، كما يحثّه الرب على تحطيم الممالك وإهلاك سكانها ووراثة أرضها كونها أضحت بلا شعب.

جاء في نصوص أخرى أمر إلهي صريح يسوّغ قتل الذكور جميعاً لقطع النسل والفناء الأبدي. ويتكرّر الأمر الإلهي بقتل الذكور من الأطفال والنساء الحبالى تحقيقاً للإبادة وتحقيق وعد الرب بتملّك الأرض التي بلا شعب. وهنا تتجسّد الخلفية التوراتية لفكرة ” أرض بلا شعب”، ففلسطين أمّة انقرضت ولابدّ “لإسرائيل” أن ترثها وتسكن أرضها.

وتتجلّى رحمة الرّب ولطفه ببني إسرائيل وذلك من خلال قيامه بطرد الشعوب من أمامهم لأن إبادتهم سريعاً ستجلب عليهم وحوش البرية فلا بأس من طردهم بعيداً على دفعات ثم إبادتهم هناك حيث طردوا جميعاً.

وتبرز الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء إتباع نهج القتل والإبادة، فلا سبيل لإنقاص الكثرة العددية التي تمتاز بها الشعوب سوى القتل والإبادة الجماعية.

وتروي النصوص التوراتية بصراحة خبر المجزرة التي ارتكبها بنو إسرائيل بحق سكان مدينة أريحا حيث شملت أعمال الإبادة الرجال والنساء والأطفال والشيوخ حتّى البهائم لم تسلم من القتل بحدّ السيف.

وبشكل مشابه يأمر الرّب نبيّه يشوع أن يبيد سكان عاي ويفعل بها كما فعل بأريحا، ولكنّه في هذه المرّة يطلب منه استثناء البهائم فتؤخذ كغنيمة حرب.

وهكذا تنفذ إرادة الرّب ويباد جميع سكان عاي عن بكرة أبيهم وتجري عملية إحصاء لعدد الذين سقطوا ذبحاً في ذلك اليوم من رجال ونساء فتبلغ الحصيلة اثني عشر ألفاً من أهل عاي، أمّا المدينة فقد صبّ بنو إسرائيل جام غضبهم عليها فتحوّلت إلى ركام خراب، وقد نال الملك نصيبه وآل به الحال إلى مصير مفجع حيث صلب ثم أنزلت جثته فأقاموا عليها رجمة حجارة كبيرة.

وتقصّ النصوص التوراتية أخبار المجازر التي ارتكبها يشوع بحق سكان المدن الفلسطينية حيث جرى ذبحهم جميعاً بحدّ السيف ولم يبق هارباً، بل أبادهم جميعاً كما أمره الرّب إله إسرائيل. حيث يمعن يشوع في ارتكاب المجازر بحق المدن الفلسطينية فحرقها وذبح سكانها بحدّ السيف حتى قطع ذكرهم وأباد نسلهم ولم يبقي نسمة دون شفقة أو رأفة استجابة لإرادة الرّب.

ويستكمل بنو إسرائيل، بعد موت يشوع، أعمالهم في إبادة سكان فلسطين، كسنّة جارية، فيقتلون عشرة آلاف منهم. حيث تتجسد أبشع وأفظع أعمال الإبادة التي تمجّها النفس ويرفضها العقل حيث تعدت حدود واقع قتل النساء والأطفال إلى فضاء خيالي قوامه الفتك بالأجنة في أرحام أمهاتهم لقطع النسل ومحو الذكر والفناء الأبدي. استناداً على أحكام تحضّ بصراحة على قتل السكان دون تمييز سواء أكانوا رجالاً أو نساءً أو أطفالاً حتّى الرّضع وإهلاك البهائم بأنواعها.

تلك هي جذور العقلية الصهيونية وخلفياتها الدينية الإرهابية، وهي التي نتعامل معها الآن ويظن كثير من السذّج وضيقي الأفق السياسي أنه يمكن في يوم من الأيام أن نعيش معهم في سلام ووئام.

إن الإرهاب الصهيوني بني على الإيمان بالعنف وارتكاب المجازر مستنداً إلى الشريعة التوراتية، كما بني على الإيمان بالنزعة العسكرية إيماناً مطلقاً، وتربية الأجيال المتعاقبة من الصهاينة عليها، حتى صارت جزءاً من تكوينهم، ولعلّ أخطر من ذلك كلّه الإيمان بإبادة الجنس العربي عادّاً ذلك غاية بحدّ ذاتها.

إن التوراة هي الحقل الفكري الذي قطعت منه الصهيونية أخشابها لتبني أعمدتها الأساسية، ولعلّ أبرزها مبدأ القتل والإبادة الجماعية. فالتوراة هي مدرسة سياسية واجتماعية وأخلاقية لليهود وتوجيه لهم في كل أمورهم. ولم تكن الأفكار والاتجاهات الصهيونية بنزعتها الإجرامية لتنمو من تلقاء نفسها، وفي أرض قاحلة، بل هي تمدّ جذورها في تربة التوراة وتتغذّى من موادّها.

فالصهيونية التي أنجبت الكيان الإرهابي وأطلقت عليه اسم “إسرائيل” زوراً وبهتاناً لإثبات الحجة التاريخية والقداسة، عوّلت على هذا الكيان اللقيط في تحقيق الأفكار التوراتية المتعلّقة بالقتل والإبادة الجماعية، التي تجعل منه دولة قوية تستطيع احتلال العالم. وهكذا فإنّ عمليات القتل الإبادة والجماعية التي نشاهدها ونسمع بها في فلسطين ليست إلا تجسيداً وتكريساً للرؤى التوراتية والنبوءات الدينية التي حضنها اليهود أكثر من ألفي عام.

ومثّل الإرهاب في الفكر الصهيوني مرتبة عالية تضعه على قدم المساواة أو ربما أعلى أحياناً من العقائد المتطرفة التي ينبذها المجتمع الدولي، فهو وسيلة لإثبات الذات وإقناع الآخرين بأنّهم قادرين على إلحاق الأذى والضرر بهم وخاصة العرب إذا ما فكّروا في مقاومتهم، وأدلّ شيء على ذلك هو قول الإرهابي مناحيم بيغن، في معرض تعليقه على مجزرة دير ياسين عام 1948 فقال:” ما وقع في دير ياسين وما أذيع عنها ساعد على تعبيد الطريق لنا لكسب معارك حاسمة في ساحة القتل، وساعدتنا الأسطورة في دير ياسين على وجه الخصوص في حماية طبريا واحتلال حيفا … كل القوات اليهودية تقدمت عبر حيفا مثل السكين الذي يقطع الدهن. بدأ العرب بالهرب وهم يصرخون دير ياسين، وتملك الفزع من العرب في أنحاء البلاد وبدأوا بالهروب للنجاة بحياتهم”.

وتبقى العنجهية والصلف ظاهرة محدودة في المجال الفردي وقابلة للعلاج من خلال الوعظ والدعوة إلى التفكير في مصير الإنسان، ولكن هذه الظاهرة تستفحل خطراً وتشكّل تهديداً للكيان الإنساني حين تتخذ شكل أيديولوجية منظّمة كما هو الشأن في الكيان الإرهابي الغاصب في فلسطين المحتلّة، ولا نعتقد أن النصح والوعظ مجديان في معالجة هذه الظاهرة، وإنّما وسيلة الكفاح الشعبي المسلح، والموقف السياسي الممانع هو العلاج العملي لهذه الظاهرة.