صعود الصين يدفع تنمية الجنوب العالمي
عائدة أسعد
ينتقل الاقتصاد الصيني من النمو الكمي إلى التنمية النوعية، مدعوماً بقوى إنتاجية نوعية جديدة، وقد خضعت العديد من البلدان التي تعتبر الآن متقدمة لهذا التحول أيضاً، ولكن ما يجعل العملية مختلفة بالنسبة للصين هو أنها أكبر دولة نامية، ولديها علاقات تجارية ليس فقط مع البلدان المتقدمة، ولكن أيضاً مع البلدان النامية وفي الواقع، مع معظم بلدان العالم.
لقد وصلت الصين إلى هذه المرحلة من التحول الاقتصادي بفضل الإصلاح والانفتاح، وأصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ويمكن تقسيم الإصلاح والانفتاح في الصين إلى أربع مراحل مميزة.
بدأت المرحلة الأولى في عام 1978، في أعقاب الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني، في حين شهدت المرحلة الثانية، التي بدأت في عام 1992، إضفاء الطابع المؤسسي على الدور المهم للسوق والتكامل الحقيقي لآليات السوق مع سياسات التنمية، كما بدأت المرحلة الثالثة في عام 2001 عندما انضمت بكين إلى منظمة التجارة العالمية، وبدأت في دمج الاقتصاد الصيني مع الاقتصاد العالمي، لتصبح لاعباً مهماً في الإنتاج والتجارة العالمية.
وبدأت المرحلة الرابعة وعصر جديد في عام 2013 عندما أطلقت الصين جولة جديدة من سياسات الإصلاح الشاملة، واقترحت مبادرة الحزام والطريق، ولاحقاً ثلاث مبادرات أخرى تركز على الأمن والتنمية والحضارة.
تدعو مبادرة التنمية العالمية إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية مع الدعوة إلى بذل جهود عالمية لتطوير عالم أكثر صحة وخضرة بما يتماشى مع أجندة الأمم المتحدة 2030 لأهداف التنمية المستدامة، وخلال هذه المراحل تمكنت الصين من التغلب على العديد من التحديات للتكامل مع الاقتصاد العالمي، وإعادة تشكيل الإنتاج والتجارة العالمية.
ومنذ انعقاد الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني في تموز الماضي، أكدت الصين أن الأهداف العامة لمواصلة تعميق الإصلاح بشكل شامل هي مواصلة تحسين، وتطوير نظام الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، ودفع التحديث الصيني، وتحديث نظام الحكم الوطني وقدرة الحوكمة، وتحقيق التنمية عالية الجودة، وأصبحت الحاجة إلى تطوير قوى إنتاجية جديدة عالية الجودة أكثر أهمية.
وعلى الصعيد الخارجي، أدت التوترات العالمية المتزايدة إلى زيادة الحاجة إلى ابتكار نموذج جديد للتنمية، وخاصة لتحقيق الاعتماد على الذات في المجالات الإستراتيجية مثل العلوم والتكنولوجيا. وفي الوقت نفسه تعهدت الصين بتعميق التعاون وتوسيع التجارة مع البلدان الأخرى، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد. وفي حين قررت بعض الشركات الأجنبية تحويل استثماراتها إلى اقتصادات أخرى، زاد عدد الشركات الأجنبية المستثمرة المسجلة حديثاً في الصين بنسبة 14.2 في المائة في النصف الأول من هذا العام، ويتعارض هذا الاتجاه مع محاولات الغرب بقيادة الولايات المتحدة لفصل أو إزالة المخاطر من الاقتصاد الصيني.
إن توسيع التجارة الخارجية يشكل أهمية بالغة بالنسبة للصين وغيرها من الاقتصادات، وخاصةً الاقتصادات الغربية التي تتمتع بطلب مرتفع نسبياً على السلع والخدمات بحكم ثرواتها، وتقدم سلعاً عالية الجودة ذات قيمة مضافة عالية للصادرات، ولكن الغرب يعاني في هذا الصدد من ثلاث عيوب مترابطة:
أولاً: يمثل الغرب حوالي ثُمن سكان العالم فقط، أي أقل من مليار نسمة من إجمالي سكان العالم الذي يزيد على 8 مليارات نسمة.
ثانياً: يتراجع أداء الاقتصادات الغربية في الأمد المتوسط من حيث الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بأداء البلدان النامية في الجنوب العالمي.
ثالثاً: جمعت الدول الغربية كميات فلكية من الثروة خلال الفترة الاستعمارية، وكانت تسيطر على الأنظمة المالية والحوكمة العالمية من خلال استغلال البلدان النامية، ولكن السيناريو يتغير الآن بفضل النفوذ الاقتصادي والسياسي المتزايد للجنوب العالمي. بعبارة أخرى، لم يعد بإمكان الدول الغربية استغلال البلدان النامية كما فعلت في الماضي.
وهنا، من المهم تسليط الضوء على العلاقة بين الصين والدول النامية الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار أن الصين هي الدولة الأكثر نفوذاً في الجنوب العالمي. وبالنسبة للعديد من الناس في الغرب، فإن مجموعة البريكس هي ما يمثل الجنوب العالمي بشكل أساسي، وحتى لو كان هذا الافتراض غير صحيح،لا يمكن إنكار أن مجموعة البريكس، كانت في الآونة الأخيرة، تلعب دوراً متزايد الأهمية في مؤسسات أخرى، بما في ذلك مجموعة العشرين، ليس أقلها لأن رئاسة مجموعة العشرين متناوبة، وبالتالي تشغلها دول نامية مثل الصين والهند والبرازيل بعد فترات منتظمة.
وعلى سبيل المثال، عقد اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين هذا العام في ريو دي جانيرو، البرازيل، في شباط الماضي، كما أن البرازيل وباعتبارها أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، وعضو مؤسس في مجموعة البريكس، تعمل على وضع نفسها كواحدة من قادة الجنوب العالمي، وستكون قمة مجموعة العشرين المقرر عقدها في تشرين الثاني 2024 في ريو دي جانيرو، أول قمة تُعقد في البرازيل. وفي حين تولت الهند رئاسة مجموعة العشرين العام الماضي، وتتولى البرازيل الرئاسة الحالية، سيشهد العام المقبل تولي دولة أخرى من دول البريكس، وهي جنوب أفريقيا.
وأكدت القمة الجنوبية الثالثة لمجموعة الـ 77، التي عقدت في كامبالا بأوغندا في كانون الثاني الماضي، على الأهمية المتزايدة وتأثير مجموعة الـ 77 والصين، حيث تأسست المجموعة كمجموعة من 77 دولة نامية في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في عام 1964، ثم توسعت منذ ذلك الحين إلى 134 عضواً، كما تشارك الصين في المجموعة منذ عام 1994.
لقد أصدرت القمة الثالثة للجنوب وثيقة تسلط الضوء على المشاكل المتعددة الأبعاد، والتحديات الجديدة التي تعصف بالعلاقات الدولية، وأكدت القمة الثالثة للجنوب على أهمية التعاون بين بلدان الجنوب، وتعزيز التنمية الاقتصادية، مع العمل ضمن منظومة الأمم المتحدة الإنمائية لسد الفجوة المالية في أهداف التنمية المستدامة، ودعم أجندة الأمم المتحدة 2030، وتعهدت بدعم التعددية وتحسين العلاقات مع جميع البلدان، ومن المتوقع أن يلعب سعي الصين إلى تحقيق التنمية عالية الجودة دوراً مهما في هذه الحركة المعززة للجنوب العالمي.