“شظايا أنثى ووطن” بِرِقّة الأنثى وقوة الفارسة
أمينة عباس
تتنقل بين القصة والشعر في كتاباتها، وما تكتبه يحدد الجهة التي ستلوذ بها لتعبّر عما تريد قوله، ويبقى القاسم المشترك بين القصة والشعر لسان حالها كأنثى، فلا تختبئ منها ولا تخفيها، ففي مجموعتها القصصية الأولى “إلى آدم” خاطبت آدم، وفي مجموعتها الشعرية الأولى كانت “لبوة الحرف” وفي مجموعتها الشعرية الجديدة الصادرة حديثاً عن “دار توتول للنشر” والذي وقّعتْه، مؤخراً، الشاعرة سنا هايل الصباغ في المركز الثقافي العربي بـ”أبو رمانة” تحدثت عن “شظايا أنثى ووطن” وعنه تقول: “تضم المجموعة قصائد نثرية وومضات خرجت من رحم الحرب، إذ بدأتُ كتابتها على الورق ووسائل التواصل الاجتماعي منذ بداية الحرب 2011-2012 وعبّرتُ من خلالها عن الوجع السوري، وحينها لم يتسنّ لي طباعتها بسبب الظروف التي كانت قائمة، أما القاسم المشترك بين هذه المجموعة وسابقتها، وكل كتاباتي، فهو الأنثى والوطن، والاختلاف هو أن الأنثى كانت قبل الحرب “لبوة الحرف”، وهنا تحوّلت إلى شظايا بسبب الحرب، ولكون المجموعة صدرت من رحم الحرب، لم تستطع إغفال دور المرأة التي عانت كثيراً وما تزال تحارب على جميع الجبهات كأم وزوجة وعاملة وجندية، وهي الثكلى بأولادها وزوجها، ولكوني أنثى ما كان لي إلا أن أكتب عن كل هذه الجوانب، فكتبتُ كتابي الأول، وفيه توجهتُ إلى آدم فقط وقدّمتُ نماذج من الرجال طغى عليها النموذج السلبي، وأعترف بأنني أميل إلى الكتابة عن المرأة لكونها تمثلني، لا بقصد تقديم ما اصطُلح عليه بالأدب النسوي الذي أرفضه، لأنني ضد تصنيف الأدب بأدب نسوي وآخر ذكوري لقناعتي أن الأدب أدب، والقصيدة قصيدة، فقصائد نزار قباني جاء معظمها على لسان أنثى، وهو ليس أدباً نسوياً”.
لكن ماذا عن التجربة الثانية بالنسبة إلى أي كاتب؟ هل تبدو أسهل أم أصعب؟ تجيب الصباغ: “الشعر إلهام، حين يأتي يُجبَر الشاعر على البوح للورق، ووجود حدث يستفز مشاعره هو ما يجعله يكتب بغضّ النظر إن كانت التجربة أولى أو ثانية، وحين تصبح القصيدة على الورق يكون أمام أمرين، فإما أن يبقيها كما هي، وإما أن يقوم بصقلها وتشذيبها إن لاحظ أنها تحتاج إلى ذلك، وهنا برأيي تكمن الصعوبة”.
وحول الوضوح والمباشرة والذاتية في شعرها تبين قائلة: “أكتب بنَفس شعريّ، ولا أنكر أن بعض المواضيع الوطنية تتطلّب الوضوح مهما اعتمدت على الاستعارات والجمل والمجازات اللغوية، لكنني أبتعد قدر الإمكان عن المباشر الذي قد يصلح في القصة أكثر من الشعر الذي يحتمل الإيغال في التشابيه الشعرية، أما الوضوح فأعتمده وأبتعد عن الألغاز لأن الشعر الذي يصل لأكبر قدر من الناس هو السهل الممتنع، وأكبر مثال على ذلك شعر نزار قباني بكلماته البسيطة والواضحة، لذلك ينبغي ألا نغوص في الغموض والفلسفة في الشعر لنثبت أننا شعراء، خاصة وأن الجيل الحالي بعيد عن ذلك وعما ينبئ عن استعراض للعضلات اللغوية التي لا أحبذها، وإن استخدمها غيري، أما الذاتية فربما طغت في بعض ما كتبتُه من قصائد الوطن في مجموعتي الأخيرة، أما في كتاباتي الأخرى فتحدثتُ عن تجارب شخصية مررتُ بها أو مرّت بها صديقاتي أو سمعتها بالصدفة أو رأيتُها على التلفاز، فحرّضتني على الكتابة بصيغة الأنا، وكتبتُ على لسان الأخريات لأمثّل المرأة بشكل عام لا لأمثل نفسي فقط، والمعادلة التي أعتمدها دائماً هي ألا أغرق بنفسي حتى لو كتبتُ بصيغة الأنا لأن الشاعر يخفق حين لا يعمم تجاربه الذاتية على الآخرين، في الوقت الذي يستطيع فيه أن يكتب عن هموم عامة من خلال تجربته بتعميمها على الهمّ العام، ودون ذلك لا أظن أن القارئ سيكمل ما يكتبه الشاعر والكاتب طالما أنه بعيد عن الهمّ العام والقضايا الكبرى”.
وردّاً على سؤال: “هل أنتِ قاصّة تكتبين الشعر أم شاعرة تكتبين القصة؟ لا تتردد الصباغ بالقول: “أنا هاوية شعر، ولديّ موهبة أحاول تنميتها ولم أرقَ بعد إلى لقب شاعر الذي يستحقه كبار الشعراء، وأكتب الشعر والقصة، وبدأتُ بالقصة لأنها لا تحتاج إلى بحور وقوافٍ ووزن بل إلى الإلهام والموهبة، مع إدراك عناصرها الأساسية، وربما أكون قاصّة تكتب الشعر، وشاعرة تكتب القصة، ولكن عندما أكتب الشعر لا أكتب مجرّد جمل هنا وهناك، ولا أكتب قصيدة غير مفهومة وبالألفاظ الجزلة والجمل الصعبة والتشابيه الفلسفية، فهذا برأيي ليس شعراً لأن الشعر يقوم على فكرة واحدة وحين أكتبه لا أبتعد عنها، فأبقى في صلب الموضوع ولا أترك الحبل على الغارب، وحين أكتب القصة أكتبها بنفَس شعريّ وبجمل ومجازات وتراكيب شعريّة، وأبتعد عن التقرير والمباشرة، لذلك أقول إن كتابة القصة أفادتني في الشعر، كما أفادني الشعر في كتابة القصة، وهذا ما جعل أستاذ النقد الراحل الدكتورماجد أبو ماضي يقول عن مجموعتي الأولى في القصة: “بطل هذه المجموعة اللغة”.
وفي قراءته للمجموعة، يؤكد عضو اتحاد الكتّاب العرب الأستاذ جابر أبو حسين أنه يقدم رأياً انطباعياً عاجلاً وليس بصدد تقديم رؤية نقديّة للمجموعة، فيقول: “كتبت الشاعرة برقّة الأنثى وقوة المرأة الفارسة، وجمعت بين ثنائية الوطن والأنثى، وكانت معظم النصوص تتغنّى بالوطن والبطولات والأمجاد والتحدّي والكرامة وعذابات الإنسان ونضال المرأة ضد الظلم لرفع راية الحب والسلام والكرامة الفردية والجمعية، فنصوصها التي أفردتها للحب والمرأة كنصوصها المبدعة عن الوطن، فهي شجاعة، عاشقة، مقاتلة في سبيل كرامتها وأنوثتها التي تخصّ كل امرأة في مجتمعنا، وفي المجموعة روح طفليّة، فالمشاعر صادقة وواضحة بلا تكلّف، وقد حَوت الكثير من الصور والانزياحات والتراكيب الجميلة والكنايات الدالة الموظفة توظيفاً جيداً من دون الاحتفاء بالرمز إلا ما ندر، مع وجود تناصّ صارخ في نصّ كامل “رسالة من طفل سوري” وهو محاكاة لقصيدة محمود درويش “سجل أنا عربي”.
ويحدثنا أيضاً الشاعر فرحان الخطيب المتابع لتجربة الشاعرة قائلاً: “باحت من خلال قصائدها وومضاتها الشعرية بوحاً شفيفاً وصادقاً عن ذاتها والوطن، فاتّحدا بلملمة شظاياهما، وفي المضمون تمخضت الشظايا عن موضوعين واضحين: الأول: ما تعرض له الوطن من طعنات الغادرين، والثاني: ما تعرضت له الشاعرة من طعنات شريكها في الحياة ـ الرجل بشكل عام ـ فنتج عن ذلك التشظي لكليهما الأنثى الشاعرة والوطن الذي يحتضنها، فتشاركا في الوجع والآلام، وتحتفي المجموعة بقصيدة النثر متوسطة الطول والومضة، وكلاهما يحتاج إلى مكَنة لغوية وبلاغية وعلوّ اجتهاد، والشاعرة أجادت في مواضع عدة بالدهشة والإيجاز والمعنى القابع في جمل شعرية عالية التأثير محتشدة بالجمال، فتكررت الألفاظ الزاهية: الياسمين، فيروز، الصباح، القهوة، المطر، الشوق، الحنين، العطر، مستخدمة بعض معطيات الحداثة الشعرية باللغة اليومية الرشيقة والسلسة، ما أوصلها إلى تقديم رؤية واضحة بعيداً عن التكلف والصنعة، وبهذا أقول إن الشاعرة تمتلك الإرادة للسير قُدماً على دروب القصيدة الجميلة والصعبة في آن، وما عليها إلا متابعة المسير لتكتب عن وطن وأنثى وليس عن شظايا”.
يُذكر أن الشاعر أحمد يوسف داوود قدّم للمجموعة ومما كتبه نختار:” تَملِكُ شاعرتنا رهافةَ الإحساسِ وقوّةَ الأداءِ الإبلاغيِّ”.