الفوضى السياسية تجتاح فرنسا
ريا خوري
تشهد فرنسا أجواء سياسية متزايدة من التوتر والقلق في ظل انتقادات حادّة من تحالف اليسار الفرنسي (الجبهة الشعبية الجديدة) لقرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ودعوة فرنسا الأبية (أقصى اليسار) إلى التظاهر في 7 أيلول القادم ضده، لرفضه رفضاً قاطعاً تشكيل حكومة يسارية التوجه.
وقد بدأ ماكرون جولة جديدة من المشاورات السياسية لحسم ملف تعيين رئيس للوزراء، بينما تواصل الحكومة الفرنسية المستقيلة تسيير أمور وقضايا السلطة منذ أكثر من أربعين يوماً، وهو وضع غير مسبوق في فرنسا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث يأتي استئناف ماكرون المشاورات السياسية بين الكتل السياسية والأحزاب وسط ضبابية تامة، والتي لم يدع إليها لا اليمين الشعبوي المتطرف ولا أقصى اليسار، فيما رفض بعض المسؤولين المدعوين المشاركة، وستشمل الاستشارات شخصيات هامة ومرموقة لم تكشف أسماؤهم، وبينهم رؤساء سابقون.
وبرر ماكرون قراراه هذا بضرورة الحفاظ على استقرار المؤسسات والإدارات والهيئات التي رفضت هذا الخيار، إذ توعَّدت الكتل السياسية الأخرى، من الوسط إلى أقصى اليمين بحجب الثقة عن حكومة من أقصى اليسار باعتبارها حكومة “خطيرة”. لذلك أعلن رئيس الحزب الاشتراكي أوليفييه فور عدم مشاركته في المشاورات الجديدة التي تجري في قصر الإليزيه، وندَّد بما يجري واصفاً إياها بـــ (المهزلة الديمقراطية).
كما أنَّ القرار الذي أعلنه ماكرون في بيان طويل أثار غضب الجبهة الشعبية الجديدة التي اتهمته بــ (إنكار الديمقراطية)، بينما دعت فرنسا الأبية (أقصى اليسار) وهي العضو مع الاشتراكيين والشيوعيين والبيئيين في التحالف اليساري، إلى التظاهر في 7 أيلول ضد خطوة ماكرون، حيث أكَّد الاشتراكي فابيان روسيل على ضرورة أن يواصل اليسار الفرنسي دوره في (الكفاح) ودعا الشعب الفرنسي إلى التعبئة العامة. وليس هذا فحسب، بل قالت زعيمة البيئيين مارين توندولييه: “لن نستمر في هذا السيرك”.
من الواضح أنّ اللوحة السياسية الفرنسية تقدم لنا خارطة توضيحية وشاملة لمجريات التشاور السياسي في الكواليس والغرف المغلقة وبعضها القليل الآخر في العلن، فقد حلّ الائتلاف اليساري في طليعة نتائج الانتخابات البرلمانية في شهر تموز الماضي، دون أن يحظى بالغالبية المطلقة في الجمعية الوطنية، ولو أنه تقدم على كتلتي اليمين المتطرف والمعسكر الرئاسي، ما يجعل البحث عن توافق أمراً في غاية الصعوبة.
لقد عمَّت الفوضى السياسية وحالة القلق فرنسا بأكملها نتيجة قرار الرئيس المفاجئ حل الجمعية الوطنية بعد فشله في الانتخابات الأوروبية التي جرت في التاسع من شهر حزيران الماضي، ودعا معسكر ماكرون إلى التحلي بـ(المسؤولية)، محاولاً السعي الحثيث إلى ضم الاشتراكيين إليه وعزل اليسار الراديكالي.
وقد دعا جيرالد دارمانان وزير الداخلية الفرنسي في الحكومة المستقيلة إلى تشكيل (تحالف واسع)، مؤكداً أنَّ بإمكان أنصار ماكرون التوصل إلى ما بات يُعرَف بــ (الاتفاق على الحد الأدنى) مع الاشتراكيين من أجل السماح لـ (مؤسسات وإدارات وهيئات فرنسا) بالعمل.
على المقلب الآخر، فإنَّ قوى اليمين التقليدي الفرنسي يرفضون الدخول في أي ائتلاف، مع عدم استبعاد (التصويت لصالح ما يذهب في الاتجاه الصحيح). أما أقصى اليمين الشعبوي المتطرف، فيواصل اتهام ماكرون بــ (زرع الفوضى).
منذ عدة عقود لم تعرف فرنسا صيفاً يعتريه القلق والخوف على الأمن والاستقرار السياسي كما يحدث حالياً، في ظل حكومة مستقيلة بقيادة غابريل أتال، والتي حطمت رقماً قياسياً في تصريف الأعمال، والقيام بواجباتها ريثما يتم تشكيل حكومة جديدة، وبوجود جمعية وطنية بكتلها البرلمانية الكبرى المتنافرة والمتناقضة، من اليسار والوسط واليمين الشعبوي المتطرف، وهي كتل، وإن لم تتساو في عدد المقاعد، إلّا أنّ كل واحدة من تلك القوى وتلك الكتل تعتبر نفسها الأكثر تعبيراً عن فرنسا الحرّة، ما عقَّد المشهد السياسي وأربك التواصل بين تلك الكتل وتلك القوى منذ الساعات الأولى لصدور نتائج اقتراع شهر حزيران الماضي، أما النتيجة السياسية لتلك الانتخابات، فكانت أن ألقت بالدولة الفرنسية في مسار محفوف بالمخاطر والقلق لتبقى معلَّقة دون أفقٍ واضح لتشكيل حكومة فرنسية جديدة.
لقد التقى ماكرون بالعديد من فرقاء الجمعية الوطنية الفرنسية محاولاً إيجاد أرضية مشتركة بين الجميع، رغم أن قيادات حزبه (النهضة) تأمل ألا يحدث أي توافق على الساحة السياسية الفرنسية. وبذلك تبقى البلاد معلَّقة أفضل من أن يتمكن اليسار الراديكالي من تزعم الحكومة الجديدة ، التي يراها كثيرون من يمين الوسط، أكثر تشدداً وخطراً من اليمين الشعبوي المتطرف نفسه الذي يمثله حزب التجمع الوطني وزعيمته مارين لوبان، لكن دولة فرنسا لا يمكن أن تبقى بلا سلطة مستقرة آمنة ، ولا يرغب الرئيس ماكرون في أن يتم وصفه السنوات الثلاث الأخيرة من ولايته الرئاسية بالتأزم وعدم الانفراج السياسي، وأن يبقى كــ (بطة عرجاء) في قصر الإليزيه، فهذه النهاية لن تخدم مساره السياسي وأفقه وطموحه، وقد تخرجه من تاريخ رؤساء فرنسا عبر باب ضيق جداً. ولهذا فقد استعاد مؤخراً مبادرة الاتصال بمعظم الكتل السياسية والحزبية للخروج من كل تلك المآزق، بخاصة حالة الضغوط الهائلة من قِبَل (الجبهة الشعبية) التي تهدف إلى تسمية رئيس جديد للحكومة، قاصدين بذلك لوسي كاستيس (37 عاماً) الخبيرة الاقتصادية الشابة، التي يبدو أن توافق أطراف عديدة من الجبهة الشعبية على ترشيحها مفاجأة أخرى من تبعات نتائج الانتخابات الأخيرة التي اتصفت بالسخونة والقلق وعدم الاستقرار.
حظيت لوسي كاستيس، وهي من اليسار، بدعم كبير جداً من حزب (فرنسا الأبية) الذي يتزعمه جون لوك ملونشون، وهي تحمل أجندة مدروسة بعناية فائقة يصفها الوسطيون بأنها متطرفة لأنها تضرب في الصميم كل السياسات التي أقرها ماكرون، فقد تعهدت بإلغاء إصلاح نظام التقاعد، ومكافحة الجرائم المالية التي تقوم بها بعض الشركات الاستشارية، والإقدام على إصلاح ضريبي كبير. ومن المؤكد أن مثل هذه التعهدات تثير فزع وقلق كل القوى التي لا تؤمن بها، وربما لذلك فقط يرفض ماكرون تعيينها بحجة أنه يريد زعيماً حكومياً يتمتع بما بات يُعرَف بــ (دعم واسع ومستقر) لتجنب التصويت التشريعي بحجب الثقة.