يغلب عليها الإملاء والتلقين.. المناهج الجامعية لا تخرّج كوادر للمهن المستقبلية والمجالات التي تعاني من نقص الكفاءات
غسان فطوم
في ظلّ التغيّرات المتسارعة التي يشهدها العالم بخصوص المنظومة التعليمية بشقيها التربوي والجامعي، يبرز تحدٍّ كبير أمام وزارتي التربية والتعليم العالي لجهة كيفية تطوير مناهج تعليمية تواكب متطلبات سوق العمل الحالي، وفي الوقت نفسه تهيئ الطلاب لمواجهة تحديات المستقبل، وهذا الأمر أضحى محور نقاشات حادة بين الخبراء وأعضاء فرق تأليف المناهج، الذين يسعون جاهدين لتحقيق التوازن بين متطلبات الحاضر واحتياجات المستقبل.
ليس جيداً
الدكتور آصف يوسف الذي عمل لفترة مديراً للمركز الوطني لتطوير المناهج ورئيساً لقسم المناهج في كلية التربية بجامعة دمشق، لم يتردّد بالقول: إن الوضع الحالي للمناهج الجامعية، وخاصة في الكليات النظرية ليس بحالة جيدة، وغير منسجم مع المتغيّرات التي يشهدها سوق العمل، مشيراً إلى أن غالبية المقررات باتت تشكّل عبئاً على الطلبة كونها دون أية فائدة نتيجة التشابه فيما بينها، ونتيجة لقدم معلوماتها التي ليس لها بعد وظيفي، أي لا ترتبط بحاجات ومتطلبات المجتمع، وبرأيه يجب الإسراع بالعمل على تقليل عدد المقررات، لأن الأهم هو الجودة والنوعية وليس العدد الكبير للمقررات القديمة الضحلة، مطالباً بإلغاء التكرار كلياً في المقررات المتشابهة، مشيراً على سبيل المثال إلى وجود ستة مقررات في كليات التربية حول طرائق التدريس وأصوله تحوي معلومات متكررة ومتشابهة إلى حدّ كبير يمكن دمجها أو توحيدها بمقرر أو اثنين، الأول حول استراتيجيات التدريس العامة، والثاني مقرّر طرائق تدريس خاصة.
حشو زائد
ولم يخفِ أستاذ التربية وجود الكثير من الحشو الزائد في عديد المقررات، مطالباً بزيادة عدد ساعات الأنشطة العملية لجميع المقررات، موضحاً أن هذا الأمر مهمل ولا أحد يعمل عليه في الجامعات، التي تفرد حيزاً لحلقات البحث وهي بوضعها الحالي غير جيدة، بحسب قوله، لأن أغلبها يتمّ على طريقة “النسخ واللصق”، وبالتالي لا تُعلّم الطالب ابتكار الأفكار والحلول، وهذا برأيه واحد من الأسباب التي تجعل المخرجات الجامعية ضعيفة وغير مطلوبة في سوق العمل.
بحاجة لتحديث
وقال أستاذ التربية: صحيح هناك ثوابت في علم النفس والتربية وباقي العلوم، لكن أيضاً هناك متغيرات تحدث في العالم لا بدّ من مواكبتها من قبل واضعي المناهج، وإلا سنبقى متأخرين عن غيرنا وندور في حلقة مفرغة.
وأكد يوسف أهمية أن تكون كلّ الوزارات ممثلة في مركز تطوير المناهج أثناء وضع المقررات، بهدف تأليف كتاب جامعي يحاكي متطلبات سوق العمل الذي لم يعد يقبل بالشهادة الجامعية التقليدية، مضيفاً: عندما يجتمع ممثلو الوزارات في لجنة إعداد المقررات نعرف احتياجات كلّ وزارة ونعرف معاناتها، وبالتالي ننجر كتاباً عصرياً يُعلّم الطالب كيف يبدع ويبتكر بعيداً عن “الحفظ البصم”، لافتاً إلى أن غالبية الكتب المؤلفة يتمّ وضعها كيفما اتفق، وتقييمها من قبل اللجان ليس جدياً، لأن اللجان لا تقرأ، لذلك لا عجب أن نرى مقررات هزيلة أو ضعيفة، مطالباً بأن تضمّ لجان التقييم ممثلين عن الوزارات التي كانت حاضرة أثناء إعداد وتأليف الكتاب حتى تقرّر بنفسها جدوى اعتماد المقرر.
السوق الحالي أم المستقبل؟
الباحث والمحلّل الاقتصادي محمد السلوم الذي كان أحد أعضاء فريق تأليف وتطوير المناهج بوزارة التربية في وقت سابق، يرى أن المناهج الجديدة يجب أن تكون مرنة وقادرة على التكيّف مع الاحتياجات المتغيّرة لسوق العمل.
وقال السلوم: “لا يمكننا تجاهل احتياجات السوق الحالية، فهي التي ستحدّد ما إذا كان خريجونا سيتمكنون من الحصول على وظائف بمجرد تخرجهم، نحن بحاجة إلى التركيز على المهارات العملية المطلوبة اليوم، مثل التكنولوجيا، والبرمجة، واللغات الأجنبية، ولكن يجب أن نترك مساحة للابتكار والتفكير النقدي في مناهجنا”. وأضاف: إن الاهتمام بالتعليم القائم على احتياجات السوق الحالي هو “خطوة ضرورية لتجنّب ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب”، ومع ذلك، يؤكد أنه يجب أن تكون هناك نظرة أبعد نحو المستقبل، “نحن لا نبني فقط لخمس سنوات قادمة، بل نؤسّس لنظام تعليمي يستمر لعقود قادمة”.
تحديات ورؤى مستقبلية
من ناحية أخرى، يطرح السلوم رؤية مختلفة تتمثّل بضرورة أن تتجاوز المناهج التعليمية الحالية مجرد تلبية احتياجات السوق الحالي، مشيراً إلى أهمية بناء مناهج قادرة على خلق فرص عمل في سوق عمل جديد تلبي احتياجات المرحلة القادمة، هذا التوجّه يتطلّب الابتعاد عن النمط التقليدي في التعليم، والانتقال إلى منهجيات تركز على الإبداع، والريادة، والقدرة على التكيّف مع التغيّرات السريعة.
ولفت السلوم إلى وجود تخوف من أن الاقتصار على تلبية احتياجات السوق الحالي قد يؤدي إلى إهمال التفكير الاستراتيجي، مما يجعل النظام التعليمي عاجزاً عن مواكبة التطورات المستقبلية، “إذا ركزنا فقط على ما يطلبه السوق الآن، فإننا نخاطر بإعداد أجيال ستكون غير مهيأة للتحديات المستقبلية، سواء كانت تلك التحديات تكنولوجية أو بيئية أو اقتصادية”.
إيجاد التوازن
بحكم تجربته بالعمل في التأليف وتطوير المناهج وما تجمع عبر معلومات التغذية الراجعة من المدرّسين والطلاب والمشرفين في المنظومة التربوية والتعليمية، إضافة إلى رأي الجمهور العام، توصل السلوم إلى رؤية تقوم على “إيجاد توازن استراتيجي بين الحاضر والمستقبل”، ففي ضوء هذه المعطيات، يبدو أن الحلّ الأمثل من وجهة نظره يكمن في تبني رؤية تعليمية شاملة تأخذ بعين الاعتبار كلاً من الحاضر والمستقبل، مطالباً بأن تحتوي المناهج برامج تضمن للخريجين القدرة على الاندماج السريع في سوق العمل الحالي، وفي الوقت نفسه تركز على تطوير مهارات التفكير النقدي والإبداعي، والقدرة على التكيّف مع التغيّرات، وتشجيع الابتكار وريادة الأعمال.
وقال: بهذا الشكل، يمكن للنظام التعليمي في جامعاتنا أن يسهم في إعداد جيل قادر على المساهمة في بناء اقتصاد مستدام ومزدهر، لا يعتمد فقط على احتياجات السوق الحالية، بل يسهم في خلق فرص عمل جديدة تتماشى مع التحديات المستقبلية، “إنها ليست مهمّة سهلة، ولكنها ضرورية إذا أردنا أن نضمن مستقبلاً مشرقاً لأبنائنا ولبلدنا”.
برامج تدريبية مهنية خاصة
ومع استمرار التحديات التي تواجه سورية، يرى السلوم أن الحاجة تتزايد إلى مبادرات تعليمية وتدريبية قادرة على تلبية احتياجات الفئات الخاصة من الشباب، ولاسيما أولئك الذين أنهوا خدمتهم العسكرية، هؤلاء الشباب، الذين غالباً ما يبتعدون عن المسار التعليمي خلال فترة الخدمة، يحتاجون إلى دعم خاص يضمن لهم إعادة دمجهم في المجتمع وسوق العمل بشكل فعّال.
واقترح السلوم حلاً لذلك من خلال إنشاء شُعب تعليمية وتدريبية خاصة داخل المؤسسات التعليمية والتدريب المهني، تستهدف هؤلاء الشباب وتوفر لهم برامج مكثفة تركز على المهارات المهنية التي تتناسب مع متطلبات سوق العمل المحلي والدولي، مشدداً على أن تكون البرامج مصمّمة بعناية لتقديم تعليم سريع وفعّال، يمكّن الشباب من اكتساب مهارات جديدة وتطوير تلك التي ربما اكتسبوها خلال خدمتهم العسكرية.
وضرب مثالاً “يمكن أن تشمل هذه البرامج دورات في مجالات مثل الصيانة الميكانيكية، والبرمجة، والتصنيع، والتكنولوجيا الزراعية، والتي تعتبر جميعها مجالات تحتاج إلى مهارات عملية وتتطلّب تدريباً ميدانياً، كذلك، يمكن أن توفر هذه البرامج الدعم النفسي والاجتماعي اللازم لهؤلاء الشباب للانتقال بسلاسة من الحياة العسكرية إلى الحياة المدنية، فمن خلال هذه الشُعب الخاصة، يمكن ضمان أن الشباب الذين أنهوا خدمتهم الإلزامية ليسوا فقط جاهزين للاندماج في سوق العمل، بل يمكنهم أيضاً أن يكونوا قوة فعّالة تساهم في إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع، وتعزيز هذه المبادرات يعتبر استثماراً حقيقياً في مستقبل هؤلاء الشباب، وفي مستقبل سورية ككل”.