مخلوف مخلوف من الشعر إلى الرواية: لست نسخة مكررة عن أحد
ملده شويكاني
من الشعر إلى الرواية ثمة روابط متآلفة ومختلفة، من هذه الروابط كان الحديث مع الأديب مخلوف مخلوف، الذي عُرف بشعره المبنيّ على ثقافته الواسعة بالتاريخ والأدب والأساطير، ما فتح أمامه الباب لدخول عالم الرواية، فأصدر ثلاث روايات، آخرها “بتوقيت دمشق” الصادرة عن اتحاد الكتّاب العرب، والتي حملت الجملة الخبرية بعنوانها الشائق الذي تكرر بنشرات الأخبار، والتصق بدمشق ووثّق من خلالها بعض أحداث الحرب الإرهابية التي تعرّضت لها سورية، يقول: “الشعر -عامة- يعتمد على التكثيف اللغوي والإيقاع الموسيقي والصورة الشعرية والتحليق خارج فضاءات الزمان أو المكان المعاش، ولا أعني شكلاً محدداً من الشعر، فهذه قواسم مشتركة ربما بين كل أشكال الشعر من شعر نثري أو تفعيلة أو موزون ومقفى أو غيره، بينما للرواية بيئتها الزمانية والمكانية ولغتها السردية وشخوصها وأحداثها التي تجسد واقعاً لغة الحياة والناس، فهي الحكاية وإن كانت الحكاية وحدها لا تصنع عملاً روائياً، لأن الرواية فنّ أولاً وأخيراً، وينسحب هذا على القصة والمسرح، أما عن علاقته بالرواية فبدأت بعد الشعر من القصة، إذ استهوتني القصة القصيرة وكتبتُ عشرات القصص وأصدرتُ مجموعتين قصصيتين، ثم وجدتُ في الرواية مناخات أكثر اتساعاً وعمقاً وشمولية وربما أقرب إلى حياة الناس وأحلامهم وأوجاعهم”.
وقد نوّع الأديب مخلوف مخلوف بالمستويات اللغوية في نتاجه الأدبي، ففي الرواية كتب بلغة واقعية لا تخلو من الصور الجميلة، أما في الشعر فاتكأ على ثقافته الشعرية، وفسّر بأن “لغة الرواية هي لغة الناس العاديين، لغة الحياة كما هي من دون قفازات أو إضافات، فالراوي يتحدث بلغة أشخاصه أو لنقل يحرر أشخاصه من ثقافته أو لغته، فتنطلق للتعبير عن هواجسها واحتياجاتها الفكرية والنفسية والروحية والمادية بلا قيود، وهكذا تبدو لغتها سهلة بسيطة، ولاسيما أنها تتكئ أصلاً على الأسلوب السردي في تطور أحداثها وشخصياتها، فيما القصيدة من الممكن أن تولد في لحظات لأنها دفقة شعورية شعرية مكثفة تتفجر ربما هكذا فجأة من دون سابق إنذار، وبرأيي أن الموهبة وحدها لا تصنع شاعراً ما لم تترافق بكمّ كبير من الثقافة الأدبية والفكرية والفلسفية والمجتمعية”.
وعلى خلاف الروائيين، وبدلاً من أن يقسّم مخلوف روايته إلى فصول قسّمها إلى أزمنة والتي من المفروض أن تدخل ضمن المتن الحكائي عبْر الامتداد الزمني داخل بنية السرد، لكنّه ارتأى توضيح هذا التقسيم والإشارة إليه، فأشار إلى ما قام به بأنه من عشاق الاختلاف، ويضيف: “أنا شديد الحرص على ألّا أكون نسخة مكررة عن أحد سواء في القصة أم الشعر أم الرواية قدر الإمكان، وهكذا اخترتُ أن تعكس الرواية في أحداثها وأشخاصها وبيئتها ثلاثة أزمنة، تشكّل مفاتيح السردية الروائية بدلاً من الفصول”.
وصوّر مخلوف الزمن الأول دمشق، حيث مسرح الرواية قبل الحرب، دمشق العاصمة التي لا تنام، المدينة العاشقة للحياة والحب والجمال، دمشق النهارات التي لا تتعب والليالي التي لا تنتهي، “بدت دمشق من حيث كنّا مرآة عكست قبة سماوية، تطرزها نجوم من ورائها نجوم.. قطعة سماوية هبطت في غفلة حراسها، وكان قاسيون بالانتظار”، فيما توقف الزمن الثاني عند دمشق خلال الحرب الشعواء التي حوّلت العاصمة إلى مرتع للخوف والرعب والخراب ولم تستثنِ أحداً، فكل ما فيها من بشر وحجر وتاريخ وحاضر أهداف مشروعة لتلك العصابات المأجورة لقتل الحياة في دمشق، ولهزيمة الضوء والعطر والحب فيها، “لماذا استهداف مراكز البحوث العلمية في سورية؟ هل تهدّد هذه المراكز البحثية الحريات والديمقراطيات والأفكار التنويرية وسواها؟ لماذا هو مسموح لغيرنا من الدول أن تخصّص مليارات الدولارات لأبحاثها العلمية العسكرية والمدنية، ومحظور علينا حتى أن نخطو الخطوة الأولى في هذا المضمار”.
في حين رصد الزمن الثالث دمشق العاصمة وهي تتعافى رويداً رويداً من آثار وآثام الحرب، وقد استعادت الحياة التي تستحقها بعد هزيمة المشروع التدميري والتخريبي الذي أُريد لها، وينوّه مخلوف بأنه وعبْر هذه الأزمنة الثلاثة كانت ثمة علاقات اجتماعية وإنسانية مليئة بالحب والجمال تدور وتتفاعل وتتصاعد بين أدق تفاصيلها، يقول: “لكل عمل روائي بيئته الزمانية والمكانية، فالمكان هو المسرح الذي تدور في جهاته الأحداث وتتحرك الشخصيات، والمكان في روايتي هو دمشق، دمشق الإنسان ودمشق المكان بكل ما تمثله هذه المدينة من امتداد تاريخي وحضاري وثقافي واجتماعي، فتشكّل مادة شديدة الثراء لأي كاتب أو فنان، فحارات دمشق القديمة بأقواسها وحجارتها وطرازها المعماري كانت حاضرة بقوة من خلال الأحداث، التي كانت تتفاعل وتنتقل عبر شوارعها وساحاتها وسكانها، لذلك اخترتُ عنواناً مرتبطاً باسمها للتدليل على مدى التصاق الرواية بدمشق زمكانياً ووجودياً وحضارياً، ومضت الرواية بأزمنتها الثلاثة وأحداثها التي لا تنتهي ما بقيت الحياة، وبقي الليل والنهار، “متى كانت دمشق تبدأ نهارها من دون أن تغسل وجهها وتسرح شعرها وترش وابلاً من عطر ياسمينها على رقبتها”.
وكان من غير المنطقي ألّا يوثّق الحرب الشعواء على بلدنا، ولاسيما أن هذا النوع من الحروب يعدّ الأبشع والأقذر بين كل الحروب عبر التاريخ، لا يوفر بشراً ولا حجراً، ولا يميز بين منشأة مدنية وأخرى عسكرية أو حتى بين أشخاص مدنيين وعسكريين، فكل ما هو نابض بالحياة عدو للإرهابيين ويجب قتله، وكما هو معروف فإن للحرب قوانين خاصة بها، لكن هذه الحرب أسقطت كل القوانين، يقول: “وأردتُ من خلال الرواية تقديم وثيقة تاريخية لأحداث عشتها ورأيتها بأم العين في دمشق، وتكاد تكون سيرة ذاتية لحقبة زمنية عشناها بكل تفاصيلها وأوجاعها وبشاعتها، لأنني أرى أنه من مهمات العمل الروائي أن يؤدي دوراً توثيقياً لأحداث عصفت في بلدنا أو غيرها، وأجزم أن روايتي “بتوقيت دمشق” حققت هذا الدور بلغة أدبية وإبداعية”.