الخمرة الإلهية في الأشعار الصوفية تقيم الرؤوس وتحيي النفوس
أمينة عباس
بمدخل صغير جداً لطريق طويل سلكه شعراء الصوفية والتصوف الإسلامي من أمثال سعدي شيرازي وجلال الدين الرومي ومحمد إقبال، بدأ الدكتور أنس تللو حديثه عن الخمرة الإلهية في الأشعار الصوفية من خلال المحاضرة التي ألقاها، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي بالمزة قائلاً: “هذه ليست محاضرة دينية، إنما محاضرة أدبية تصف وصف الشعراء للخمرة كما عنوها هم، وتالياً لا يمكن مناقشتها أو الاستماع إليها إلا من خلال هذا المنحى”.
وذكَّر الدكتور تللو بما قاله د. عبد الكريم اليافي عن الطريقة الصوفية في كتبه قائلاً: “بدأ التصوف أول الأمر تزوداً من العبادة وإعراضاً عن الدنيا ونزوعاً إلى الزهد والتقشف، ثم تجاوزَ التصوفُ الزهدَ وأصبح حباً ومعرفةً ربانيَّين يملكان على القلب أرجاءه ويصرفانه عما سوى الله، وهؤلاء يذكرون في عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها ويريدون بها ما أراد الله تعالى على ألبابهم من المعرفة والشوق والمحبة، والحبيب في عباراتهم عبارة عن حضرة الرسول (ص) وقد يريدون به ذات الخالق الحبيب والمحبوب والطالب والمطلوب”، ويضيف الدكتور تللو: “المتصوفة يذكرون في عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها، ويعنون بالخمرة معرفة الإله المعرفةَ الصافية النقية التي تزهو بالنفس وتسمو بالروح”، وعلى هذا النحو تناول تللو في حديثه الشاعر حافظ شيرازي “الذي تغنّى بالحبّ والجمال، وكان يعيش في شيراز في القرن الثامن الهجري ويُلقَّب بلسان الغيب وترجمان الأسرار والذي عند وفاته امتنع بعض الرجال عن تشييع جنازته، وقالوا إنه متهم في دينه ومطعون عليه في عقيدته، وقد دُفن في روضة المصلى المكان الذي كان يتعشّقه كثيراً في حياته، وعلى القبر لوحة رخامية عليها قصيدة طويلة مطلعها:
إذا ما استمعتَ لأهلِ القلوبْ فإنك لستَ الخبيرَ المرجَّى
فحاذرْ تصفْهم بقولِ العيوبْ بسرِّ الضلوعِ وسرِّ القلوبْ
ويرى الدكتور تللو أن شيرازي في أشعاره كان لا يعني إطلاقاً تلك الخمور التي تنيم الرؤوس بل قصد “الخمور” التي تقيمها وتحيي النفوس والتي إذا ما عاقرها المرء، أي إذا ما التزم الإنسان بطلب التواصل مع الله التواصل بالمعنى اللغوي الحقيقي المشتقة منه كلمة الصلة فإنه يتصل ويرتشف من رحيق تلك الخمرة الإلهية، نافياً أن يكون شيرازي قد عنى بالخمرةِ الخمرةَ الحقيقية وهو القائل:
وصرت إذا ما شربتُ الخمورْ كشفتُ بكأسي جميعَ الأمورْ
وصرتُ بفقري المليكَ الفخورْ وفاخرتُ بالفقرِ أهلَ الغرورْ
فعمري بخمركِ فيه ازديادْ وفيه الفتوحُ وكشفُ الـمُرادْ
ومن خلال هذا الكلام يدرك المرء إذا ما وصل إلى معرفة الله فإنه يعيش العمر عمرين، أو أكثر”، أما في قوله:
شرابي سعيدٌ، وكأسي هنيءْ ورأسي خرابٌ، وكنزي مليءْ
فهو حسب الدكتور تللو “سعيد بشرابه ومطمئِن أيضاً وهو يحسُّ أنه قد نفض نفسه عن هذه الدنيا الفانية، فلم يملأ رأسه بهموم الماضي ولم يشغله بأحلام المستقبل ولم يشغلْه مال أو دنيا عن هذا الذي هو فيه، لذلك يشعر أنه يملك بهذه القناعة كنزاً عظيماً:
وأصبحتُ أسكن خلد الجنانْ وأودعتُ روحي بأعلى مكانْ
وإذا كان شعر حافظ شيرازي عجيباً مذهلاً في وصفه، فهناك عمر بن الفارض الذي يسمّى في مصر بـ”سلطان العاشقين”، ويحاول أنس تللو أن يدخل إلى صومعة عمر بن الفارض من خلال قصيدته المشهورة:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وهذه القصيدة برأيه “أجمل قصيدة في الوصف، بدأها بنفي قاطع على أن يكون قد عنى بالخمرةِ الخمرةَ الحقيقية، فالمدامة المذكورة هي المعرفة الإلهية والشوق إلى الله تعالى، وقوله سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرم يعني به: غبنا لذة وطرباً عن كل ما سوى الحقيقة، غبنا بهذه الخمرة الإلهية الحاصلة من التأمل العميق في القدرة الإلهية المعجزة”.
وفي قراءة الدكتور تللو لبعض أبيات القصيدة حاول المواءمة بين المعنى الظاهر للكلام والمعاني السامية التي قصدها ابن الفارض، مستعيناً بذلك كله بشرح الشيخ عبد الغني النابلسي لديوان عمر بن الفارض: “ومع ذلك فإن عمر بن الفارض لم يخلُ من أن يتهم أيضاً بالزندقة وحُكِم عليه بالموت لأن التفسير مستويات، والفهم مستويات”، ويذكر تللو أن عمر بن الفارض ولد في القاهرة عام 579 هـ وتفقّه في الدين وتوسّع في اللغة والأدب، ثم انحاز إلى التصوف فاعتزل الناس وانفرد للعبادة والتأمل والتجرد فآوى إلى مكان خاص في جبل المقطم، ثم قصد مكة وأقام فيها خمس عشرة سنة فاكتملت مواهبه الروحية، ثم عاد إلى مصر حتى توفي في القاهرة ودُفن بسفح جبل المقطم عام 632 هـ”.
وارتأى الدكتور تللو في محاضرته التعريج على شاعر الخمرة الأكبر أبو نواس قائلاً: “لأنه وكما يقال بضدّها تتميّز الأشياء وطالما أنني أتحدث عن الخمرة الإلهية، فلماذا لا أشير إلى الخمرة الأرضية، وأبو نواس هو شاعرها الأكبر وهو القائل:
واشرَب عَلى الوَردِ مِن حَمراءَ كَالوَردِ
كَأساً إِذا اِنحَدَرَت في حَلقِ شارِبِها
أَهدَته حُمرَتَها في العَينِ وَالخَدّ”
ويستطرد الدكتور تللو قائلاً: “ابن الفارض لم يشرب كشرب أبي نواس بل شرب شراب المحبة الإلهية الناشئة عن شهود الأسماء الجمالي للحضرة العليَّة، والحضرةُ العليَّة توجب السكر والذهول عن جميع الأعيان الكونية، وأشير إلى أن شعراء الخمرة الصوفية الإلهية كثيرون، وأذكر بيتين من قصيدة الشاعر جورج جرداق “هذه ليلتي” التي غنّتها أم كلثوم والتي صرّح في أولها أن الخمرة عنده هي حبه للمحبوب كي لا يُفهَمَ خطأً في نهايتها حين قال:
يا حبيبي وأنت خمري وكأسي فيك صمتي وفيك نطقي وهمسي
ومنى خاطري وبهجة أُنسي وغدي في هواك يسبق أمسي
وببيتين من قصيدة “من أجل عينيك عشقت الهوى” يختتم تللو محاضرته:
يا فاتناً لولاهُ ما مسَّني وجد ولا طعمُ الهوى طابَ لي
هذا فؤادي فامتلِك أمرَهُ واظلِمه إن أحببت أو فاعدلِ.