الصداقة الصدوقة ناموس
غالية خوجة
تتداخل العلاقات الإنسانية بطبيعتها، فكلّ إنسان لديه شبكة من العلاقات تنشأ معه منذ الطفولة، وأول حلقة من هذه العلاقات المحيط العائلي بالطبع، تليها حلقة الأقارب والجيران وزملاء الدراسة، وتأتي بعد ذلك حلقة المعارف وزملاء العمل، لكن، ليس كل أطراف هذه العلاقات وحلقاتها من الأصدقاء.
يحتاج الإنسان مع تكوّن “أناهُ” وتطوراته النفسية إلى مجتمع ملائم حوله ومعه، لأن طبيعته المفطور عليها اجتماعية، وكلما نضج الإنسان من خلال التجربة الحياتية، اكتشف طبيعة الناس المحيطة به، والتي تظلّ قيد الاكتشاف، وريثما تتكوّن لدى الإنسان منا حلقة مقربة من الأصدقاء، يكون سعيداً، وواثقاً بتلك القلوب التي اجتمعت على نبضة واحدة، ومشاعر متبادلة في الفرح والحزن والضيق وعثرات الحياة.
ومع تآلف الأرواح يصبح للحياة شعاع متفائل جديد، وتتحرك الأيام متناغمة مثل أغنية يؤلفها ويلحنها ويغنيها الأصدقاء معاً، حتى لو أبعدتهم ظروف الحياة بمسافاتها الزمنية والمكانية، لكن النبضات الصادقة لا تؤثر فيها عوامل الطبيعة من رحيل وترحال وعودة، بل تجعله أقوى، كما لا تؤثر فيها عوامل النقص في النفوس البشرية مثل عواصف النميمة، وإشعال نيران البغضاء، والحقد، والفتنة، والحسد، والتأليف السلبي بأشكاله المختلفة من أجل هزيمة الأصدقاء وتفرقتهم والضحك على ما وصلوا إليه بعدما تنتهي اللعبة.
الصديق الصدوق يحضن حياتك بضيقها قبل اتساعها، بآلامها وأحزانها وجراحها قبل فرحها، لأنه يشعر بإحساسك بصدق، ويضع نفسه مكانك، ويتصرف تبعاً لهذه الرهافة كطبيعة أساسية في علاقة الصداقة الصادقة الصدوقة التي لا تشوبها ذرات من السوء والسيئات والظن، بل تراهُ يحاول إسعادك دائماً، لأنك مرآته في المحنة أو الرخاء.
هذه العواطف الوجدانية التي يتفاعل بها ومن خلالها الأصدقاء، هي المحور النابض لناموس هذه العلاقة الأبدية، المتواصلة حتى بعد موت واحد من الأصدقاء، وهي مقام وجداني لا يُقدّر بثمن، لكنك تستطيع أن تشكر أصدقاءك على تفاعلهم معك ومن أجلك، فمن لم يشكر الناس لا يشكر الله.
ومن يحظى بصديق صدوق في هذا الزمن فهو مرضيّ من الخالق، وأتمنى أن أكون كذلك، فأنا أشكر جميع صديقاتي العزيزات وأصدقائي الأعزاء في حياتي، أولئك الذين يشكّلون نبضة واحدة تحضن آلامي قبل أفراحي، وتشعرني بأنها نبضة ما زالت مقصّرة من شدة تعاملها الحساس الشفيف، فأزداد خجلاً من الله ومنهم.
وبالمقابل، هناك من نحسبهم أصدقاء، لكنهم وبعد عقود، يتضح أنهم ليسوا كذلك، وأن العمى أصاب قلوبهم، فازدادت اسوداداً، ولا نعرف هل لأن تعاملنا الصافي كماء الينابيع حجب عنّا ما يخفونه، أم أنهم كانوا بارعين في حجب ما لا يريدونك أن تعرفه وتراه إلاّ في التوقيت الذي يريدونه هم، في التوقيت الذي صار قلبك ضمن متلازمة القلوب المنكسرة، ليستمعوا مع قهقهاتهم لرنين شظاياك وانكسار ما تبقّى منك على قيد الحياة.
أمثال هؤلاء لم يكونوا للحظة أصدقاء وقد تجدهم ضمن عائلتك، للأسف، مثل بعض الأخوة والأولاد والأقرباء والجيران المقربين وإلى آخر ما تضمّه هذه الشبكة من علاقات إنسانية، حينها، تلسعك الصدمة، فإمّا أن توقظك، أو تحطّمك، لكنها، بكل تأكيد تظلّ ندبة أبدية في روحك التي لا تحبّ التخلي عن الطيبة وحسن الظن، فهذا ديدنها النقي الذي لا تغيّره المتغيّرات السلبية، لكنها تتعلّم أن تتألّم بطريقة أخفّ، ولا تتعلّم أن تسبّب الألم لأي أحد لأنها أشفّ.
المهمّ، غالباً، أن نحاول المحافظة على توازن قلبيّ وصحي وعقلي وجسدي وروحي يكون الدرع الواقي بعد الخالق لحياتنا ووجداننا وصدقنا، فلا نغش من غشنا، ولا نؤذي من آذانا، ولا نكون حقلاً لردّات فعل سيئة، وفهم خاطئ، بل نرتقي بوعينا على مدارج الحكمة، موقنين بأن هذه الحياة الدنيا زائلة إلى الفناء، وأن البارئ حق دائم الوجود والبقاء.