سعر الفائدة وإدارة السيولة النقدية.. هل نجحت أدوات السياسة النقدية في تحقيق أهدافها؟
د. ليندا علي إسماعيل *
تختلف السياسة النقدية في فترة الأزمات عنها في الظروف الطبيعية، وقد اتخذت السلطة النقدية في سورية منذ بداية الحرب في عام 2011 وحتى الآن العديد من القرارات الهادفة لإدارة السيولة النقدية والمحافظة على استقرار سعر الصرف وحماية قيمة العملة المحلية من الانهيار. وفي هذا الإطار، أعلن مصرف سورية المركزي اعتماده سياسة استهداف سعر الصرف واستخدام كل من سياسة الاحتياطي الإلزامي وسياسة سعر الفائدة بالإضافة إلى سياسة إدارة السيولة لدىالقطاع المصرفي كأدوات للسياسة النقدية (تقارير الأعمال السنوية لمصرف سورية المركزي ( 2018- 2019).
لم تحظ قرارات السلطة النقدية بإجماع وقد أثار بعضها جدلا. نناقش فيما يلي فعالية أدوات السياسة النقدية خلال فترة الحرب من وجهة نظرنا.
أولا، فيما يتعلق بسياسة الاحتياطي الإلزامي:
صدر بتاريخ 2011/05/02 قرار رئاسة مجلس الوزراء رقم 5938 الذي تضمن تخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي على الودائع إلى %5 من مجموع الودائع تحت الطلب والودائع لأجل بالليرة السورية، وبالعملات الأجنبية، بهدف دعم سيولة المصارفمع السماح للمصارف بتخفيض متطلبات الاحتياطي الإلزامي على جزء من الودائع الموجهة لتمويل المشاريع الإنتاجية والخدمية.
يمكن أن يكون تخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي سياسة ناجحة إذا أدى فعليا لزيادة سيولة المصارف وقدرتها على منح المزيد من القروض، إذ من شأن ذلك أن يساعد على زيادة كمية وسائل الدفع في المجتمع وتنشيط المعاملات بين الأفراد وزيادة الطلب الكلي، ومن ثم الدخل القومي. لكن المشكلة تكمن في أن البنك المركزي لا يتحكم فعليا بشكل كامل في مستوى الودائع والقروض المصرفية من خلال نسبة الاحتياطي الإلزامي؛ إذ إن نسبة الاحتياطي الإضافي التي تحتفظ بها المصارف ومعامل تفضيل السيولة من قبل الجمهور تؤثر أيضا في المضاعف النقدي وفي الودائع، وبالتالي في العرض النقدي، وهو أمر يجب أيضا أخذه بالاعتبار عند إدارة سيولة المصارف والعرض النقدي.
تعتبر عدم الثقة بالجهاز المصرفي، وأيضا انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية، من العوامل التي يمكن أن تساهم في زيادة تفضيل العملة، وبالتالي انخفاض المضاعف النقدي في فترات الأزمات. أما بالنسبة للاحتياطيات الإضافية، إذا كانت المصارف تخشى زيادة في سحوبات الودائع فإنها تبحث عن حماية نفسها في مواجهة هذا الاحتمال وتزيد نتيجة ذلك نسبة الاحتياطي الإضافي الذي تحتفظ به، وهو ما حدث خلال فترة الحرب في سورية.
من المهم الإشارة أيضا إلى أن زيادة سيولة المصارف لا تؤدي بالضرورة إلى زيادة القروض المصرفية ومنح الائتمان في حال كان هناك مخاطر ائتمانية كبيرة متصورة من قبل المصارف؛ إذ تفضل المصارف، في هذه الحالة، الاحتفاظ باحتياطيات إضافية بدلا من الإقراض، وهو ما يعرف بظاهرة ترشيد أو تقنين الائتمان (credit-rationing). وتزداد هذه الظاهرة في فترات الأزمات، حيث تسود حالة عدم اليقين وعدم تماثل المعلومات، وما ينشأ عنها من مخاطر الاختيار المعاكس والخطر الأخلاقي في سوق الائتمان. تنشأ مشكلة الاختيار المعاكس عن عدم التماثل في المعلومات عندما يكون من المحتمل أن الأفراد الذين يرغبون أكثر في الحصول على قروض هم أولئك الذين يأخذون مخاطر ائتمانية أكبروهم الذين لديهم فرصة أكبر للحصول على هذه القروض. وهكذا، فبسبب الاختيار المعاكس يمكن أن يتم منح الكثير من القروض الخطرة، أما الخطر الأخلاقي فهو مشكلة تنشأ أيضا عن المعلومات غير المتماثلة حيث يتعرض المُقرض لخطر انخراط المقترض في أنشطة غير مرغوب فيها من وجهة نظر المُقرض، لأن مثل هذه الأنشطة تجعل من غير المرجح سداد القرض. تدفع هذه المخاطر المصارف إلى تقنين منح الائتمان. وفي هذا الإطار، يمكن أن نتفهم بعض القرارات والتعميمات التي صدرت بخصوص ضرورة تريث المصارف في منح القروض والتسهيلات أو وضع سقوف ائتمانية (مثل كتاب وزارة المالية رقم 39 لعام 2012 بتعليق منح القروض، وتعميم مصرف سورية المركزي رقم 2922 لعام 2020 المتعلق بتوجيه المصارف بالتريث بعمليات منح او تجديد التسهيلات الائتمانية بكافة اشكالها).
في مثل هذه الظروف من ترشيد الائتمان، يكون من المناسب التوجيه بمنح قروض لأغراض إنتاجية مع المتابعة لتخفيف مخاطر الخطر الأخلاقي بحيث تكون هناك رقابة ائتمانية انتقائية موجهة لتشجيع بعض القطاعات كالقطاع الزراعي أو المشاريع الصغيرة والمتوسطة. وفي هذا السياق، أصدرت السلطة النقدية القرار رقم 52 لعام 2017 الذي يتضمن تحديد الحدود القصوى للقروض والتسهيلات بحسب فئة التمويل مع التوجيه بالتركيز على تمويل المشاريع الإنتاجية ووضع ضوابط للتسليف بحيث تصرف دفعات التمويل وفق مراحل الإنجاز المرتبطة بكشوف الجهة المشرفة على تنفيذ المشاريع مما يخفف من مخاطر الخطر الأخلاقي. كما صدر التعميم 4774 لعام 2020 الذي يتضمن السماح للمصارف العاملة باستئناف منح التسهيلات الائتمانية غير المباشرة والتسهيلات الائتمانية المباشرة حصرا لتمويل القطاع الزراعي، المشاريع الصغيرة والمتوسطة، أصحاب الدخل المحدود والقروض العقارية، وتخفيض أسعار الفائدة على القروض الموجهة لهذه القطاعات والمشاريع.
ثانيا، فيما يتعلق بسعر الفائدة، الودائع والقروض:
بحسب التقارير السنوية لأعمال مصرف سورية المركزي (208، 2019)، تعد قرارات مجلس النقد والتسليف المتعلقة بأسعار الفائدة أحد المحددات الرئيسة للسياسة النقدية، والتي تهدف لدعم قيمة العملة الوطنية وتشجيع الادخار والاستثمار من خلال العمل على تحريك سعر الفائدة على الودائع، بما يعزز القدرة على التحكم بإدارة الأموال المعدة للإقراض لدى المصارف وتوجيهها إلى
تمويل الاستثمار. وفي هذا الإطار، صدرت مجموعة من القرارات المتعلقة بتحريك سعر الفائدة منذ بداية الحرب (مثل قرار رئاسة مجلس الوزراء رقم 5937 لعام 2011 الذي يتضمن رفع أسعار الفائدة الدائنة على الودائع لأجل، قرار مجلس النقد رقم 1266 لعام 2015 المتضمن رفع الحد الأعلى للفائدة على الودائع التي يزيد أجلها عن عام لتصل إلى سقف %20 ، قرار مجلس النقد والتسليف رقم 68 لعام 2022 الذي رفع سعر الفائدة على الودائع لأجل بالليرة السورية وشهادات الاستثمار من 7% إلى 11%، كحد أدنى، لتشجيعها، بما يشجع منح التسهيلات الائتمانية وتوجيهها نحو الأنشطة المنتجة).
هل حققت السلطة النقدية الأهداف المرجوة من استخدام أداة سعر الفائدة؟
في الواقع، إن معدلات الفائدة الحقيقية وليس الاسمية هي التي تؤثر على قرارات المستهلكين والشركات، وبالتالي هي التي تمارس تأثير على الودائع والإنفاق (معدل الفائدة الحقيقي = معدل الفائدة الاسمي – معدل التضخم). وهذا الأمر يجب أخذه بالاعتبار عند اعتماد سعر الفائدة كأداة للسياسة النقدية. كما أنه، في وضع الهلع والهروب البنكي (run bancaire) لا تكون قرارات المواطنين بإيداع أموالهم في المصارف أو قرارات المصارف في التوقف عن منح القروض مرتبطا بمعدل الفائدة المقترح (Stiglitz,2000).
نلاحظ بالاستناد لبيانات المجموعة الإحصائية 2021 أن معدل الفائدة السوقية الاسمية على الودائع لأجل (أكثر من عام) بالليرة السورية اتخذ اتجاها تصاعدياً منذ 2011 حتى 2018، ليبدأ بعد ذلك بالانخفاض. بالمقابل، فإن معدل الفائدة السوقية الحقيقية على الودائع لأجل كانت سالبة في معظم الفترة (2011-2021)، وانخفضت بشكل كبير منذ 2018. ما يعني أن سعر الفائدة المطبق على الودائع لم يكن ناجحا في جذب الودائع. والحقيقة فإن الودائع لأجل (أكثر من سنة) في المصارف التقليدية الخاصة شهدت انخفاضا من عام 2011 حتى عام 2016 لتبدأ بالارتفاع كقيمة اسمية، لكنها انخفضت كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي حتى عام 2016، لترتفع بعد ذلك حتى عام 2018، ثم تعاود الانخفاض (بيانات المجموعة الإحصائية 2021).
من الأسباب التي تفسر الانخفاض في الودائع، بالإضافة لانخفاض معدل الفائدة الحقيقي بسبب التضخم، عدم الثقة بالجهاز المصرفي والقرارات المتعلقة بسقوف السحب النقدي، حيث يخشى المودعون عدم إمكانية سحب ودائعهم حتى الجارية عند الحاجة.
فيما يتعلق بالتسهيلات الائتمانية، شهد سعر الفائدة السوقية على التسهيلات الائتمانية لأجل أكبر من سنة ارتفاعا من 2011 حتى 2017، لكن هذا الارتفاع كان اسميا، إذ إن معدل الفائدة الحقيقي على التسهيلات كان أيضا سلبيا، وشهد انخفاضا كبيرا منذ عام 2018. وقد شهدت التسهيلات الائتمانية الممنوحة من المصارف التقليدية الخاصة ارتفاعا، منذ عام 2011، بدأ يظهر بشكل كبير منذ 2017. لكن إذا أخذنا هذه التسهيلات كنسبة من الناتج فإنها انخفضت فعليا منذ 2011 حتى 2017، لتبدأ بالارتفاع بعد هذا العام حتى 2021 (بيانات المجموعة الإحصائية 2021).
تجدر الإشارة إلى أن من الأسباب التي يمكن أن تفسر تراجع الإقراض والتسهيلات الائتمانية من المصارف العاملة، في سورية، نقص السيولة نتيجة انخفاض الودائع حيث لم تنجح أدوات السياسة النقدية، ومنها سعر الفائدة في استقطاب ودائع كافية. وقد أوقفت مؤخراً المصارف الحكومية السورية منح القروض الشخصية مؤقتا، كما تراجعت مصارف أخرى مثل مصرف التسليف الشعبي والتوفير عن رفع سقف قروضها الشخصية، واعتمدت السقف الذي كانت تعمل به، وقيمته 5 ملايين ليرة فقط.، وذلك لأسباب تتعلق بنقص السيولة القابلة للإقراض.
مما سبق، فإن قناة الإقراض المصرفي للسياسة النقدية التي تتوقع زيادة الودائع والقروض مع انخفاض نسبة الاحتياطي الإلزامي وزيادة معدلات الفائدةلم تعمل بفعالية خلال فترة الحرب في سورية.
ثالثا، فيما يتعلق بإدارة السيولة من خلال الأدوات المالية:
صدرت مجموعة من التشريعات المتعلقة بإصدار شهادات الإيداع التقليدية بالعملة المحلية والأجنبية (قرار مجلس النقد والتسليف رقم /185/ لعام 2018 ورقم 334 لعام 2021 المتعلقين بإصدار شهادات الإيداع بالليرة السورية، قرار مجلس النقد والتسليف رقم 334 لعام 2021 المتضمن نظام إصدار شهادات الإيداع التقليدية بالليرة السورية، قراري مجلس النقد والتسليف رقم 102 لعام 2018 ورقم 333 لعام 2021 المتعلقين بإصدار شهادات إيداع بالقطع الأجنبي) في إطار إدارة السيولة لدى القطاع المصرفي من خلال خلق أدوات مالية جديدة لإدارة السيولة النقدية عن طريق تفعيل أدوات السوق المفتوحة المتاحة للمصرف المركزي. وقد قام مصرف سورية المركزي بطرح أربع إصدارات من شهادات الإيداع التقليدية بالليرة السورية للمصارف التقليدية العاملة في سورية.
وفي نفس السياق، تمت، في عام 2020، العودة لتفعيل مزادات إصدار الأوراق المالية الحكومية التي توقفت منذ بداية الحرب في عام 2011 (صدر في عام 2007 المرسوم التشريعي رقم 60 الخاص بتنظيم إصدار الأوراق المالية الحكومية بهدف الحصول على موارد إضافية لتغطية العجز في الموازنة ولتمويل المشاريع أو بهدف مواجهة التضخم)، إذ أصدرت وزارة المالية روزنامة مزادات الأوراق المالية الحكومية لعام 2020، ومنذ هذا العام أعلنت عن 13 مزادا.
تعتبر شهادات الإيداع من الأدوات المهمة لإدارة السيولة النقدية، كما أن اللجوء للأوراق المالية الحكومية لتمويل العجز يمكن أن يخفف من الضغوط على المصرف المركزي للتمويل التضخمي. لكن يواجه نجاح هذه الأدوات تحديات تتعلق بنقص السيولة لدى العارضين المؤهلين لشراء هذه الأوراق ومعدلات الفائدة المفترض دفعها في ظل معدل تضخم مرتفع، بالإضافة إلى عدم تطور السوق المالية وضعف الثقة بالديون السيادية في ظل الوضع السياسي والاقتصادي غير المستقر.
في النهاية، من المهم التنويه إلى أنتفعيل الدفع الالكتروني وأتمتة المدفوعات تتيح السرعة في العمليات المصرفية وتوفير بيانات كافية عن المتعاملين، ما يمكن أن يساعد صناع السياسة النقدية على اتخاذ القرارات المناسبة لضبط العرض النقدي. لكن نجاح إدارة السيولة النقدية لا تتعلق فقط بعمليات الدفع الالكتروني والتحويلات النقدية والتغذية النقدية لرواتب القطاع العام والخاص التي أشار لها مصرف سورية المركزي في تصريحه الأخير، وإنما يتعداه إلى ضرورة تنشيط دورة الإنتاج والاستهلاك من خلال الودائع والقروض..
* أستاذ مساعد (اختصاص اقتصاد مالي ونقدي) جامعة تشرين