ثقافةصحيفة البعث

“الأيدي الطائرة” قصص اجتماعية بنكهة الألم

نجوى صليبه

يصل الجندي “محمد” إلى منزله، تسبقه ضوضاؤه المعهودة، ونحنحته المعروفة، يدخل ويسلّم على أخوته ووالده، أما أمّه فتسقط مغشياً عليها، بعد أن رأت يده المقطوعة.. يطلب “محمد” من أخوته أن يحضروا بصلة فيضغط عليها بيده حتّى تنكسر وتفوح رائحتها ويضعها أمام أنفها، ويبدأ بمناداتها ومعاتبتها وسؤالها إن كانت تنتظر عودته ميتاً، وبعد أن تصحو يطلب من أخوته أن يجهّزوا لوازم السّهرة، ويأتي عمّ واحد من أعمامه فقط ليطمئن عليه، أمّا البقية فلم يحضروا لأنّهم تشاجروا مع بعضهم لسبب بسيط تافه يمكن تجاوزه بالتّفاهم، لكن الضّيق الذي أصابهم كما غيرهم، لم يترك أمامهم مخرجاً للتّخفيف من كربتهم سوى اللجوء إلى الضّرب.. يتوقّف “محمد” عن الإصغاء لحديث والده وعمّه ويتذكّر الصّواريخ التي سقطت في المحيط الذي يحارب فيه، وجثث رفاقه التي تناثرت أشلاء، ويتذكّر يده المقطوعة كيف طارت مع الكثير من الأيدي، ومن دون أن يدري إن كانت الأيدي الطّائرة تستغيث أم تبحث عن طرائد من الجوّ لتصطادها، ثمّ يتأوه بصمت.

هذا ملخص قصة “الأيدي الطّائرة” التي عنون فيها يونس محمود يونس مجموعته القصصية الجديدة الصّادرة عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب 2024، وتضمّ سبع عشرة قصّة، بعض عناوينها كلمة واحدة كـ”الحبل” والغروب” والتائه”، وبعضها الآخر يتألف من كلمتين أو ثلاث كـ”تحت الغطاء” و”الرّياح تحمل العجائب” و”اطمئنان ولكن”، وهذا ينطبق على طول القصة أيضاً، إذ يبتعد الكاتب عن الحشو ويعتمد الاختصار في الوصف والسّرد إلّا باستثناءات قليلة.

يغلب على هذه المجموعة الطّابع الاجتماعي، ولاسيّما ما يتعلّق بتبعات الحرب وانعكاساتها، ففي قصّة “تحت الغطاء” يتطرّق إلى حال المسنين بغياب أبنائهم، سواء الذين هاجروا أم استشهدوا أم وقفت الظّروف بينهم وبين زيارة أهليهم، ويصف الوحدة التي يعانونها ويخافونها أيضاً، يقول: “استلقت السّيدة “س” في فراشها، وتدثرت بالغطاء من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، إذ اكتشفت منذ أيّام قليلة فقط أنّ إخفاء جسدها بالكامل تحت الغطاء يحفظ دفء جسدها من التّسلل أو الهرب وتنفّسها يصبح بطيئاً كأنّها في حالة سبات، ومنذ أن اكتشفت محاسن هذه العادة، لأنّها وحيدة وهي عجوز، وليست عاجزة، باتت تسرع إلى النّوم لتتدفأ وتستريح من الهمّ والغمّ والنّكد، إذ إنّ حياتها انعطفت مذ ضربت الحرب استقراء عائلتها صوب انحدار شديد لا شيء فيه سوى الأسوأ ثمّ الأسوأ، وهكذا دواليك إلى أن صارت تعتقد جازمةً بأنّ الموت أفضل بما لا يقاس من هذه الحياة كما هي”.

أما العجوز في “كثافات” فهو صاحب همّ ووعي وذكريات، يقول: “نعم إنّها كثافة الصّور التي أخذت تتحرّك في ذاكرته مثل أسراب الفراشات التي ضاق بها المكان قبل أن تهاجر، ولم يكن عنده خيار آخر، إذ إنّ كثافة الخراب أصبحت طاغية، ولا بديل عن ذكريات الماضي خلال ساعة أو أكثر من اليقظة العنيدة في فراشة قبل النوم.. إنّه العجوز محمد، ولأنّه تجاوز السّبعين من عمره، لم يعد قادراً على العمل من أجل الحاضر أو الماضي ولا جدوى من التّفكير في صنع ما يتمناه”، ومن الهمّ الشّخصي ينتقل إلى الهمّ العامّ فيقول: “هنا توقّف العجوز -محمد- عن تذكّر بقيّة المشاهد، لكي يفكّر مرّة أخرى في الماضي القريب، إذ تلك الاحتفالات توقّفت بعد نكسة عام 1967، وبعدها أطبقت على أفواه النّاس وأعناقهم أساليب جديدة من الاستبداد والفساد، وحتّى عندما جاءت الكهرباء، لم يرافق مجيئها أيّ كثافة سوى كثافة الخوف من نكسة أخرى”، والملفت هنا هو أنّ كثيراً من شخصّيات المجموعة تعدّى السّبعين من عمره، وكأنّما يريد الكاتب قول الحكمة على لسانهم، لكن أيّاً يكن السّبب فهذا أمر نتوقّف عنده كثيراً.

وبالتّوازي مع جدّية الطّرح، يقدّم يونس قصصاً تحمل طابعاً هزلياً وساخراً، يقول في “انتظار”: “مادام الرّغيف موجوداً، لا خوف على الشّعب من الهلاك، ولا خوف على صديقي من تآكل ذهنه”، أمّا في “قرية العلماء” فيقول الّراوي صاحب المنزل للضّيف الذي زاره غفلةً وهو يرتدي بدلةً وينتعل شحاطةً بحجة أنّ قدمه تؤلمه، ليتبيّن أنّه يعاني مرضاً عقلياً: “سلامتك.. لكن كأنّي قرأت أو سمعت أنّ العلماء ينفرون من الشّحاطات وأصحابها، وبالتّالي من الأفضل أن تزورهم مرّة أخرى وأنت ترتدي حذاءً مناسباً”، ليجيب الضيف: “إذن يجب أن أسافر من دون تأخير”.

الشّخصيات في هذه المجموعة تحمل أسماءً صريحة في بعض القصص، وفي بعضها الآخر هي مجرد حروف وكأنّها ترمز إلى شيء ما أو كأنّه أراد أن يعطيها اسمها الحقيقي في دلالة على أنّ القصة واقعية تماماً، مثلاً هناك السيدة “س” في قصّة “تحت الغطاء” والسّيد”م” في “التّجربة” والصّبي “نون” في “الصّبي الكافر” والآنسة “د” في “الألم يتصلّب أيضاً”، كما أنّه لا يركّز على سماتها الشّخصية، بل على الحالة النّفسية والشّعورية فقط، يقول في “الألم يتصلب أيضاً”: “إنّها الآنسة “د” التي لم يتجاوز عمرها الأربعين عاماً، والشّيء الآخر الذي يجب ذكره ها هنا هو ذهنها الذي بدا وكأنّه يعمل ببطء شديد، بل إنّها كانت تشعر بوجود موانع تجعل تفكيرها مرتبكاً وبائساً كأنّه حصان مريض، يحبّ الجري ولا يستطي”.

المكان عنصر يراه البعض مهمّاً في القصّة والبعض لا يراه كذلك، لكن -عموماً- تحديد المكان والبيئة يعطي هوية واضحة لأي عمل أدبي، وهو في هذه المجموعة غير محدّد البلد أو المحافظة، بل اكتفى الكاتب بذكر المكان الضّيق أي في المنزل والحي وعلى الكورنيش أو الشّاطئ.

ما يجب أن نقف عنده أيضاً هو أن للكاتب أكثر من مجموعة قصصيّة ورواية، بعضها صادر عن وزارة الثّقافة وبعضها الآخر عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب، باستثناء مجموعة صادرة عن اتّحاد الكتّاب العرب، لكن الحضور الإعلامي للكاتب ونتاجه الأدبي قليل نوعاً ما.

يُذكر أنّ “الأيدي الطّائرة” صادرة عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب 2024.