“الاغتيال” وما بعده
أحمد حسن
كسواها من عمليات الاغتيال الكبرى، كان لعملية اغتيال السيّد حسن نصرالله، وما تلاها، أهداف عدّة، مركبة ومتشابكة في الوقت ذاته، كما أنها، ورغم قساوة ما حدث بل بسببه، اللحظة المناسبة لاستخلاص الدروس والعبر سواء لاستيعاب نتائجها الآنية، أو للتفاعل مع ارتداداتها المستقبلية بصورة صحيحة ومناسبة.
وبالتأكيد، فإن الدوائر المختصّة في الأحزاب والجهات والدول المعنية بالاغتيال، سلباً أم ايجاباً، انتهت من قراءة الدروس واستخلاص العبر وتحديد الأهداف التي يُجمع أغلب “القرّاء” على أنها، وإن كانت تجمع ما بين الاستراتيجي وبين الشخصي – الثأر ممن أذلّهم في جبهة لبنان على الأقل، إلّا أن أهمها كان محاولة استعادة الدور الوظيفي الذي نشأ الكيان الصهيوني، واستمر، لأجله، وهو الدور الذي صَدّعت أُسسه بصورة خطيرة سيول “طوفان الأقصى” ليس فقط بمفاعليها العسكرية بل السياسية أيضاً، وخاصة إنضاجها صورة “وحدة الساحات المقاومة” – والسيّد من أبرز قادتها – المناهضة لصورة “وحدة الساحات” التابعة لاستراتيجية “المركز” الأمريكي، وخططه، ليس بالنسبة للمنطقة فقط بل للعالم بأسره.
بكلمة أخرى، جاءت عملية الاغتيال ضمن خطوات إعادة تثبيت عالم ما بعد نهاية الحرب الباردة، والذي حكمته “بدهية ثيوسيديدس”، المؤرخ الإغريقي الشهير، والتي تقول إن “القوي يفعل كما يريد والضعيف يعاني كما يجب”، وذلك مثلاً ما يفسّر الوقوف الأمريكي “الصلب” فعليّاً خلف “المجنون” الإسرائيلي، رغم ما بدا من تباينات أوليّة معه نتيجة خطورة تصرفاته على “المركز” ذاته، سواء في صورته العالمية، وذلك أمر لا يأبه له “المركز” كثيراً، أو في إعادة تحديد استراتيجياته، فمواصلة واشنطن تعزيز وجودها العسكري في الشرق الأوسط سينتج، بحسب محللين أمريكيين، تكلفة مالية وبشرية باهظة، لكنه – وهذا الأخطر – “يترك منطقة المحيطين الهندي والهادئ تعاني من نقص في القوات”، وهي المنطقة التي كانت واشنطن قد حدّدت سابقاً توجهها الاستراتيجي إزاءها باعتبارها الخطر الأهم القادم، ما يؤكد مرة جديدة أن الوقائع التنافسية الجديدة في العالم لم تلغ بعد أهمية منطقتنا، بالنسبة للقوى الكبرى، كمفتاح جغرافي للوصل والفصل بين قضايا العالم المختلفة.
وبالطبع، فإن الدروس كثيرة بدورها، لكن أهمها تلك التي قدمها العدو ذاته، فهو وإن كان العدو قد استفاد في عملية الاغتيال، وما سبقها وتلاها من عمليات مماثلة، من عوامل عدّة – منها التقني ومنها الاستخباري الذي تشارك به أجهزة بعيدة وقريبة، ومنها طابور العملاء والجواسيس – فإن ذلك يعيد التأكيد على أن صراعنا معه هو صراع سياسي وحضاري شامل، وبدون الفهم الدقيق لذلك والعمل بمقتضى حاجاته ومطالبه فإننا سنبقى ندور في الدوامة ذاتها.
بهذا المعنى، وذلك درس للجميع، فإن المقاومة ليست أشخاصاً فقط، بل هي سياسات وتوجهات وأفكار لا تموت، لذلك فإن جنون الاغتيالات المتلاحقة لقادة المقاومة لن ينتج إلّا نشوة عابرة عند المجرمين، وعلى الكيان أن يتذكر، قبل سواه، أن اجتياح بيروت لإخراج المقاومة الفلسطينية منها هو ما أنتج حزب الله ذاته، وأن “السيّد”، بكل صلابته وصموده ودوره التاريخي، جاء إثر عملية اغتيال مماثلة لأمين عام الحزب السابق.
خلاصة القول.. في وجه ما يسمى بـ “بدهية ثيوسيديس”، هناك أيضاً “فخه”، أو “مصيدته” بترجمة البعض، وهذا “الفخ” يقول إن الانجرار إلى الحرب يصبح حتمياً في حال بروز قوة صاعدة وقوية، لدرجة أنها تقرر رفض حالة “أن تعاني كما يجب”، في وجه قوة مسيطرة، وشرفاء المنطقة قرروا رفض أن “يعانوا كما يجب”. لذلك، وبالرغم من فداحة الخسارة، “نحن على يقين بأن المقاومة الوطنية اللبنانية ستُكمل طريق النضال والحق في وجه الاحتلال، وستبقى الكتفَ الذي يسنُد الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل قضيته العادلة”، كما قال الرئيس الأسد في رسالة تعزيته للمقاومة وآل الشهيد.