خطاب الأصالة وقيم التجديد.. جدل طويل وأسئلة معلّقة
حسن يوسف فخّور
“اتباع التقاليد لا يعني أنّ الأموات أحياءٌ، بل الأحياء أمواتٌ، فاختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو اختلاف نحلتهم في المعاش” هذه رؤى ابن خلدون في الأصالة والمعاصرة، هي الجدلية التي جمعت ثُلةً من الأدباء بإدارة الشاعر إبراهيم منصور مدير المركز الثقافي العربي في المزة، وذلك بالجلسة الثامنة عشرة من الصالون الفكري الأدبي.
افتتح أستاذ النقد الحديث في كلية الآداب بجامعة دمشق طارق العُريفي مداخلته بتفسير المصطلحات أكاديمياً، فالأصالة كما قدّمها هي “المحافظة على الموروث الثقافي والاجتماعي والديني التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة المجتمع وتراثه كاللغة والعادات والمبادئ الأخلاقية والقيم المجتمعية، كما أنها تعبّر عن هوية الأمة وماضيها وانتمائها لهذا الماضي”، في حين قدّم التجديد على أنه “الانفتاح على الأفكار العالمية والتقنيات الجديدة كتغيير يتناسب مع طبيعة حياة العصر”، مشترطاً “ألا يؤدي ذلك إلى تغيير في الهوية الأصلية وجوهر الثقافة الوطنية”.
ويبيّن العريفي أن الأصالة ترى في التجديد وافداً يهدّد الهوية التراثية الثقافية والتقاليد الراسخة، في الوقت الذي يرى التجديد فيها سداً منيعاً أمام التغيير المطلوب للسير في ركب الحضارة العلمية، وبذلك ينشأ الصراع داخل المجتمع، وهذا الصراع الفكري والثقافي -بحسب العريفي- يجسّد صراع القيم التقليدية مع ضرورات التجديد”، وظهرت بدايات هذا الصراع في فترة “سيطرة الاستعمار على المنطقة العربية”؛ إذ “نشأ تياران هدفهما التخلّص من نير الاستعمار، الأول تيار الأصالة الذي نادى بالعودة إلى التراث لمواجهة التحديات القادمة من الغرب، والثاني تيار التجديد الذي نادى بضرورة الانفتاح على الغرب والحداثة الغربية، وتشعّب الصراع بين هذين التيارين ليطال الدين والتعليم والفلسفة والأدب”.
ودعا العُريفي في نهاية مداخلته مثقفي الوطن العربي ومفكريه للحفاظ على الهوية العربية؛ إذ “لا يمكن السماح بمساس الثوابت الثقافية والمجتمعية”، مع ضرورة “تنقية الأمة من بعض الشوائب التي تتنافى مع القيم الحضارية”، وتفعيل دور قيم التجديد للنهوض بالمجتمع وتطوره من خلال اختيار ما يناسبه من أفكار جديدة، وتقديمها بصورة تشبه ثقافته وعاداته؛ إذ لا بدّ من التجديد لمواجهة التحديات الكونية العلمية والثقافية، ومدّ جسور التعاون مع الثقافات الأخرى”، مؤكداً أنّ “الحفاظ على الهوية الثقافية يتطلّب الحفاظ على التقاليد الأصيلة مع إدخال ثقافات أصيلة أيضاً؛ إذ لا يمكن أن يتخلى المجتمع عن أصالة ماضيه، كما أنه لا يمكن أن يقفل أبوابه أمام قيم التجديد الحضارية”، وبذلك يكون “التوازن الواعي والهادف بين الماضي والحاضر، بين الهوية الوطنية والتحولات الثقافية القادمة”.
ولا تروق فكرة تشبّث مجتمعاتنا بالماضي للشاعر محمد عيسى، ويستنكر أنه “يتوجب عليّنا حمل أفكارٍ تنتمي إلى واقع عمره مئات وآلاف السنين؟!”، مؤكّداً أنّ ذلك “اعترافٌ بأن واقعنا غير صالح للحياة”؛ إذ أننا الآن لدينا “واقع مختلف عن واقع الماضي، وتالياً يجب تأسيس معطى جديد وخطاب جديد، فعندما نقول خطاب الأصالة يجب أن تكون مقومات الأصالة موجودة لتنتج خطاباً، وعلى الرغم من فقداننا للمقومات، لكننا نتكلم عن خطاب في هذه المفاهيم قبل أن ننتج الأسس!”، مبدياً استياءه من انعدام نتائج مثل هذه النقاشات بسبب “عدم إنتاج معارف وقيم جديدة، فنحن مكتفون بما مضى من ثقافة ومفاهيم الأجداد ونظن أنّ هذه هويتنا”، ومؤكداً أنها “ما زالت هويتنا؛ لأننا عجزنا عن امتلاك هوية جديدة”، ومحذراً من أنّ “هذه الهوية هي مقتلنا!”.
أما الحداثة من وجهة نظر عيسى فهي “تجاوزٌ للماضي”، مستشهداً بالتجربة الأوروبية في انسلاخ مجتمعاتها الحديثة عن ثقافاتها القديمة، ومبيناً أنّ الحداثة تبدأ “بتأسيس الواقع، اقتصادياً، علمياً، ودستورياً”، وتالياً “يبدأ الواقع بالتطور كما تطورت أوروبا”، ويرى النظريات التي يطلقها المفكرون العرب عن التمسّك بالأصل وتبنيه “فاشلة وغير دقيقة إطلاقاً”؛ إذ أنّ “أصالة الماضي كانت لمن مضوا!”، مستنكراً ذلك بقوله “إذا كانت هذه هي الأصالة، فأنا بلا أصل!”.
لا مصطلح الأصالة واضح، ولا مصطلح التجديد واضح من وجهة نظر الأديب عبد الله نفاخ؛ لكونهما “لا يُستعملان بكثرة في مجتمعاتنا الثقافية”، ولاسيما أننا “هنا أمام عنوانٍ مفتوح؛ لذا فالكلام مُشرع ولا نستطيع أن نضبطه بوضوح”، متكئاً على قول الدكتور وهب رومية في كتابه “شعرنا القديم والنقد الجديد”: “إننا جميعاً شئنا أم أبينا نحمل شيئاً من الأصالة وشيئاً من المعاصرة”، في تفسير رؤيته، إذ يعتقد بأنّه “مهما بلغ تمسك أحدنا بالأصالة، فلا يستطيع الاستغناء عن المخترعات الحديثة التي تحيط به، وبالمقابل مهما بلغ أحدنا من ركونه إلى الحداثة ورغبته في التجديد سيجد أنّ لديه مورثات نتيجة البيئة والتربية والأوساط المحيطة تردّه إلى شيءٍ من القديم”، وهنا علينا أن نعرف “كم من ماضينا علينا أن نلتزم به، وكم من حاضرنا يستحق الاتباع والالتزام”، ومؤكداً أنّ “شديد التمسك بالأصالة عموماً يعيش صراعاً نفسياً عميقاً”؛ إذ “تجده دائم النزق والاضطراب والتوتر، فهو يعيش في حالة انفصام، يجد نفسه مكرهاً على التعامل بأسلوبٍ عصري وهو يجنح بفكره إلى ماضٍ مضى عليه أكثر من ألف عام!”.
ولا يتفق الشاعر عيسى مع الشاعرة إيمان موصللي التي ترى ثنائيات “التراث والحداثة، التأخر والتقدم، الأسطورة والعلم، الشرق والغرب، ثنائيات متضادة نشأت في مفهومنا الجمعي، أما ثنائية الأصالة والتجديد فمتكاملة”، معتقدةً أنّ الأصالة “ليست ذاك الشيء البالي منتهي الصلاحية”، ولا التجديد “إلغاء التراث والحضارة أو نوع من البدع”، فالأصالة برؤيتها “تربةٌ خصبةٌ لزرع القيم الجديدة وإحياء القديمة”؛ إذ إنهّا “علاقة تفاعلية لا تنفصل”.
وترفض موصللي ارتباط التجديد بالغرب، واعتباره حكراً عليه؛ إذ إنّ التجديد في الفكر الغربي “تجاوز الماضي تماماً وعمل على التغيير الجذري في المجتمع وقيمه؛ لذا فرغ من محتواه الأخلاقي”، في الوقت الذي حافظ فيه الفكر العربي على “التوازن بالتعامل مع المفاهيم الجديدة بشيء من الحذر والمقارنة والمقاربة والموازنة؛ حتى تكون ملائمة لقيمنا وتقاليدنا”، أي “التجديد بما لا يتعارض مع الأخلاق والقيم المجتمعية السوية”، مؤكّدةً ضرورة دعم “الحرية المتزنة في التجديد بما يتناسب مع قيم الأصالة والحفاظ على الهوية الثقافية والوطنية” في محاولةٍ “لملء الفراغ الثقافي”؛ حفاظاً عليه من المتشددين ودعاة التغريب”.
وتفرّد الكاتب والناقد سامر منصور برؤيته؛ إذ عدّ “الاستناد إلى الموروث من تناص واستلهام واقتباس من قِبَل كاتبٍ ما ليس بالضرورة تمسُّكاً بالأصالة وإنعاشاً لذكرها”، مؤكداً أنّ “السياق والتوظيف هو الحَكم”، وباعتقاده “الاتكاء على الموروث وتوظيفه في خدمة العولمة بسياقها السلبي مسألة، وكتابة أدبٍ تنويريٍ مضادٍ للإيديولوجيات الهدامة أو المُتخلِّفة، مسألة أخرى”، فالأصالة “ليست مبنى فقط، بل أيضاً هي قيمة، وشاهد تنوير، وصيرورة”؛ إذ تنتشر الكثير من “المغالطات المنطقية الرائجة في منطوق الشخصيات الرئيسية في كثير من الروايات والقصص التي تطبع وتنشر، وقد يبني أديباً مقولة عمله الأدبي، على مغالطة منطقية”.
وفي سياقٍ يقترب من الأديب عبد الله نفاخ، يرى الناقد أحمد هلال أن “الأصالة والتحديث ينطويان على مشتركاتٍ كثيرة على الرغم من الطبيعة الإشكالية لهما، كإعادة النظر بالعلاقة بين ما هو جوهري ومدى اتصاله بالمعاصرة”؛ إذ يرى أنهما “غير متناقضين بل يكملان بعضهما البعض على نحوٍ يسهم في تنشيط الذهن الناقد”، فضلاً عن أن الاتصال بالمعاصرة هو من “يحدّد هوية اليوم على الرغم ممّا يجري من عمليات القطيعة المعرفية مع الماضي التراثي”، مؤكداً ضرورة “التفكير بالمسلمات لإحياء الفكر وتنميته من دون انقطاعه كلياً عن ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل”، فما يهم الآن -من وجهة نظره- وفي سؤال الهوية أن “نعيد طرح الأسئلة مجدداً من أجل التجاوز، والالتحاق بالمعاصرة تفكيراً وإنتاجاً معرفياً متراكماً”؛ إذ إنّ الأمر باعتقاده “ليس محض نفيٍ أو إثبات، بل تأمل في الأنساق المعرفية الجديدة لإحياء تقاليد عقلانية من شأنها أن ترتبط بعقدٍ اجتماعي وفكري وثقافي ومعرفي جديد لا يضعنا خارج الزمن، وبقدرٍ ما يسهم في إعادة الأسئلة المنتجة على مستوى الإبداع وقوانينه وانفتاحه على ما تتطلبه مقتضيات التجديد، بشكلٍ لا يقصي الخصوصية ولا يمنع من المثاقفة الواعية شكلاً ومضموناً”.
نقاش طويل وجدل أطول وأسئلة كثيرة بقيت مشرعةً؛ إذ أكّد الأدباء المشاركون صعوبة حلّ جدلية الأصالة وقيم التجديد في الخطاب الثقافي، وخاصةً في ظل التطور المتسارع للإيديولوجيات والعلوم التقنية في عصر العولمة.