“زكرين” تردد: وداعاً يا رشاد
أمينة عباس
رحل الأديب الفلسطيني رشاد أبو شاور، وكان آخر ما كتبه على صفحته على الـ”فيسبوك” وهو على سرير المرض بتاريخ 24 آب: “أنا اليوم في المستشفى من جديد، لكنني فخور في هذا اليوم وأبطال طوفان الأقصى يعاقبون الجيش المرتزق.. أنا فخور جداً.. دم أطفالنا وأهلنا في فلسطين لن يذهب سدى، وفلسطين من النهر إلى البحر وعاصمتها القدس الشريف”.
رحل رشاد أبو شاور وظلّ قلمه يلازمه حتى آخر لحظة من حياته، يكتب عن فقده لفلسطين، تاركاً وراءه سجلاً إبداعياً من المواقف والنضال والقصص والمقالات والمسرحيات والروايات التي نهلت من محور المقاومة والهموم الفلسطينية منذ النكبة عام 1948 التي وإن أجبرته على الابتعاد عن فلسطين، لكنها بقيت في روحه، يستعين بالكتابة عنها ليعود إليها مسطراً ما حدث من اغتصاب لوطنه وتشريد لأهله واحتلال لأرضه، مستعيداً في روايته الأخيرة “وداعاً يا زكرين” التي أصدرتها وزارة الثقافة هذا العام حكاية قريته زكرين التي أُجبر على تركها تحت تهديد العصابات الصهيونية وارتكابها مجزرة فيها أدت إلى استشهاد نحو 13 من أفرادها بعد معركة ضارية مع العدو الصهيوني، يقول د. حسن حميد: “كان رشاد أبو شاور في هذه الرواية لسان حال أهالي قرية ذكرين وصوتهم مثلما هو صوت الفلسطينيين عامة، فقد صوَّر أفعال الصهاينة، وكان الراوي لتاريخ الفلسطينيين البطولي والجغرافي الذي يعرف حدود القرية وأسيجتها، والسوسيولوجي الذي يتحدث عن ثقافة الناس وروزنامة الحياة الزراعية التي يعملون وفق تواريخها، فهو الطفل الذي عاش سنواته الست الأولى فيها، وحفظ الأمكنة والدروب والحقول والينابيع والأشجار”.
أصدر رشاد أبو شاور قبل روايته الأخيرة “وداعاً يا زكرين” روايات عدّة منها “أيام بين الحب والموت” و”البكاء على صدر الحبيب” و”العشّاق” و”ترويض النسر”، وكانت رواياته الأربع الأولى حسب النقاد “رواية واحدة طويلة، تحكي رحلة النضال والتغريب الفلسطيني وقضايا وهموم اجتماعية في دول العالم الثالث والوطن العربي.
ويجمع النقاد على أن أكثر ما يـميّز أعمال أبو شاور الروائية إلى جانب كشفه عن معاناة المقاتلين وإحباطاتهم بعد الهزائم المتكررة “إبرازه لدور المرأة المقاتلة وغربتها في مجتمع ذكوري، وتركيزه على عروبة الثورة الفلسطينية، ففي كل مراحل النضال وعند كل مفاصل الخيبات كان هناك دائماً لبنانيون وسوريون وأردنيون وعراقيون ومصريون ويمنيون وغيرهم يشاركون ويدعمون ويؤازرون، كما ظلّت روايته حتى في أحلك الظروف متمسّكة بأمل التحرير والعودة”.
ينحاز رشاد أبو شاور إلى روايته “العشاق” التي تمّ اختيارها كواحدة من ضمن أفضل مئة رواية عربية، وقد قدّم فيها صورة التشرد الفلسطيني منذ العام 1948 حتى مطلع السبعينيات، مبيناً ما حلَّ بفلسطينيي المخيمات من مصائب وكوارث من دون أن ينسى في صفحات كثيرة تأكيد التاريخ العريق والقديم للفلسطينيين في أرض آبائهم وأجدادهم.
حضر رشاد أبو شاور في القصة الفلسطينية من خلال مجلة “الآداب” اللبنانية، إذ نشر على صفحاتها قصصاً كان العمل الفدائي موضوعها الأساس، وفي عام 1970 صدرت مجموعته القصصية الأولى “ذكرى الأيام الماضية” في بيروت وضمّت قصصاً كان قد نُشر أغلبها على صفحات المجلة، يقول: “أطلقتني المجلة من خلال كتاباتي التي وُلدت مع بدايات زمن المقاومة، ومن معايشتي المباشرة بتحدّ للهزيمة والانكسار وبوعود الانتصار والتحرير، فعلى صفحاتها نشرتُ أولى قصصي واستمررت على فعل ذلك حتى رأت مجموعتي النور”.
كتب رشاد أبو شاور جملة مقالات حول عملية الغزو الصهيوني لمدينة بيروت عام 1982 ضمّها في كتابه التوثيقي “آه يا بيروت”، حيث وثّق فيه معارك الدفاع البطولي الذي خاضه المناضلون الفلسطينيون ومعهم القوى الوطنية اللبنانية عندما تعرضوا لتلك الحرب التي شنّتها قوى التحالف اللبناني الرجعي مع جيش الاستيطان الصهيوني.
تنقّل رشاد أبو شاور بين أقطار عربية عديدة، ثم استقر في عمّان عام 1994 وكانت سورية إحدى المحطات المهمّة في مسيرته، يقول: “في عام 1957 كنت قد لحقتُ بوالدي الذي لجأ سياسياً إلى سورية بعدما غادر أريحا في فلسطين وأقمتُ معه في دمشق، وكنتُ في الخامسة عشرة، وقد أُتيح لي فيها قراءة الكثير من الكتب وأتابع النشاطات الثقافية، ومنذ تلك الأيام تحدّدت وجهة حياتي حيث أصبحت الكتابة خياري، وحين غادرتُها لم تنقطع زياراتي لسورية، وأنا مؤمن بأنها في مقدمة من يدافع عن العرب وحقوقهم في كل المجالات، لذلك تدفع الثمن غالياً، وهي رمز للعروبة والمقاومة والنضال، الأمر الذي عرَّضها للكثير من الاستهدافات من أصحاب الأطماع والأهداف الرامية إلى طمس الهوية العربية وتهشيم شخصيتها، وهي أيضاً بلد الأدب والثقافة بمختلف أجناسها وأشكالها الأدبية التي تميّزت غالبيتها بالنضال والمقاومة، وهي ملهمة الشعراء والأدباء، فكما أنا كاتب فلسطيني يكتب للأمة العربية يوجد كتّاب في سورية يكتبون في الاتجاه ذاته، ونحن نسعى من خلال كتاباتنا وسلوكنا إلى المساهمة في نهوض هذه الأمة لتكون قادرة على المواجهة وإثبات الذات”.
يحدّثنا الكاتب والناقد د. يوسف حطيني في تصريحه لـ”البعث” عن رحيل رشاد أبو شاور: “كان في يومه الأخير يصرخ آه يا بيروت، مروّضاً نسر الكلمة، عاتباً على إله حرب لم يسترح في اليوم السابع، ورحل بعد أن عاش أيام الحب والموت، مغمضاً عينيه مثل كل العشاق وهو يحلم بأرض العسل، بينما راحت قريته زكرين تردد: وداعاً يا رشاد، وينتمي أبو شاور إلى جيل الكبار الذين عاصروا انتصارات الإنسان العربي وانكساراته، وهو واحد من الأدباء المحاربين الذين أقاموا علاقة وثيقة بين الكلمة والبندقية، إذ اختار طريق الكفاح المعمّد بالخطر على طريق عبد الرحيم محمود وغسان كنفاني وناجي العلي وخالد أبو خالد، فسار على النهج ليكون نهجاً لمن بعده من خلال التزامه الوطني والقومي والإنساني الذي لا يخفى على أحد من قرّائه، وكان أبو شاور روائياً وقاصاً وصحفياً جرّب النزوح والنفي والقهر، لكنه لم يحنِ هامته ولم يسكت على الخطأ، حيث انتقد كل المشاريع المشبوهة صحفياً وإبداعياً، ولم ينجُ من قلمه الجريء حتى الذين عمل معهم، ويستطيع كل قارئ لكتاباته تلمس ميله للبسطاء والمهمّشين والتزامه بقضاياهم، كما يستطيع التقاط مشروع إبداعي وتسجيلي يغطّي تاريخ النضال الوطني الفلسطيني منذ وعد بلفور، مروراً بكل المراحل التي مرّ بها هذا النضال.. لقد قدّم أديبنا الكبير لغة تنتمي إلى الكفاح وتدعو إلى الثورة وتحيي الأمل في النفوس من خلال إصراره في سردياته المختلفة على إعادة إحياء التراث الشعبي في الذاكرة، لأنه كان واعياً ومدركاً أن الغاصب المحتلّ يخاف من الذاكرة أكثر مما يخاف من الجنود”.