في صراع البقاء.. الموسيقا العربية هوية حضارية وقيمة إنسانية
آصف إبراهيم
ترتبط الموسيقا بالهوية الفردية والجماعية ارتباطاً وثيقاً، فهي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من أنماط حياتنا، حيث ترافقنا في كلّ مناسباتنا وانفعالاتنا، وهي من ضروريات حياتنا التي لا تقلّ أهمية عن الطعام والماء والهواء.
وفي العموم تتميّز هذه الهوية بالثبات بطبيعتها، لكنها أيضاً في تغيير وتفاعل دائم مع محيطها، قد يؤدي بها إلى الاندثار والتلاشي في حال لم نمتلك الوعي الكافي لخطورة فقدانها، وأهمية تكريسها كقيمة اجتماعية وإنسانية حضارية لا ندع مجالاً لهذا التفاعل والتأثر أن يشوّه معالمها، أو يقتلعها من جذورها ولاسيما في هذا العصر المتغيّر في قيمه الاجتماعية والمتسارع في تقدّمه التقني الذي بات من الصعب معه إيقاف طوفان قيم العولمة الهادر.
وباعتبار أن الموسيقا هي من أكثر الفنون التعبيرية أهميةً، حيث تعبّر كلّ قطعة موسيقية عن شعور وأيديولوجيا وثقافة معينة، لهذا فإنّ الحديث عن علاقة الموسيقا بالهوية غالباً ما يقتصر على الوظيفة التعبيرية للموسيقا من دون غيرها على الرغم من أهمية دور الموسيقا التي نستمع إليها في تثبيت أفكار وسمات هوياتية دخيلة علينا.
ويعدّ العالم الموسيقي البريطاني “سيمون فريث” أنّ العلاقة بين الموسيقا والهوية لا تقتصر على دور الموسيقا في التعبير عن هويتنا، بل هي تسمح لنا باختيار عملية تشكيل الهوية من خلال اكتشاف أفكار وأيديولوجيات جديدة، فالموسيقا هي واحدة من القوى التي تساهم في صقل الهويات الفردية، لكنه يعترف بأن لها الدور الأكبر في تغيير معالم الهويات.
ولأن الموسيقا فعل حضاري فطري ولد مع الإنسان، لا ضير في التمسّك به والارتقاء بسماته لتكون فعل ثقافة وغنى أيديولوجي يعكس ملامح إنسانية خلاقة، لكننا في عالمنا العربي على وجه التحديد كنا بفعل موقعه الجغرافي المتوسط بين القارات الخمس، الأكثر عرضة لتلك التوجهات الفنية والموسيقية التي شكلتها التحولات التاريخية والسياسية التي مرّت فيها غالبية الدول العربية في فترة تحكمت فيها الإرادة والهيمنة الاستعمارية التي دعت، بأسلوبها الخاص، لفرض تبعية ثقافية موسيقية جديدة من خلال تقديم العروض الموسيقية الغربية من نوع الأوبرا والأوبريت والباليه، وغيرها إلى جانب تأسيس المعاهد المتخصّصة في تدريس الموسيقا على الطريقة الأكاديمية الغربية.
وقد ساعدت الوسائل التكنولوجية الحديثة على زيادة الانفتاح الثقافي والاجتماعي، وازدياد فرص التعرف على أساليب الحياة وأنماط السلوك والعادات التي تنتشر في مجتمعات أوروبية أو أمريكية، كما ساهمت في خلق عادات جديدة قد تتناقض مع التقاليد والقيم السائدة في مجتمعاتنا العربية، ساعد امتلاكه القدرات التكنولوجية في مجالي الاتصال والإعلام على نشر هيمنته وثقافته وأفكاره وسلوكياته التي يبهر بها بقية الشعوب ويسعى للتأثير فيها، على الرغم من عدم تلاؤمها مع تاريخها وموروثها الثقافي لدرجة أصبحنا نتباهى بسماعنا الموسيقا الكلاسيكية الغربية حتى لو كنّا لا نستسيغها، ونعدّ ذلك فعل رقي وتحضر وثقافة، ونخجل من ذكر الموروث الفني المحلي، وإن كنا نطرب له في خلواتنا، لأن الموسيقا الغربية المستندة إلى إمكانيات اقتصادية وإعلامية متوحشة فرضت هيمنتها على مجتمعاتنا الضعيفة.
والملاحظ اليوم أن المعاهد الموسيقية السورية الرسمية تركّز في تشكيل الجيل الموسيقي على تكريس الموسيقا الغربية كفعل حضاري، على حساب الموسيقا العربية التي تعبّر عن موروثنا الثقافي الجميل بكل بساطته، الذي يستحق النهوض به لمجاراة الثقافات الإنسانية الأخرى، ولنا فيما يقدّمه الموسيقار المصري عمر خيرت، على سبيل المثال، من موسيقا تعتمد على المقامات الشرقية التي تدغدغ أحاسيس وعواطف الإنسان العربي خصوصاً والشرقي عموماً، خير دليل، وهي بالنسبة إليّ أكثر أهميةً من كل سيمفونيات وأوبريتات العالم، ولاسيما عندما نستمع إلى موسيقا “ليلة القبض على فاطمة” أو مقطوعة “قضية عم أحمد” أو “العرافة والعطور الساحرة” التي ألّفها للأوركسترا الكندية وغيرها الكثير.
وأتفاعل مع مقطوعتي عازف العود العراقي نصير شما “حدث في العامرية” و “حلم مريم” اللتين عبر بهما عن معاناة أطفال العراق زمن الاحتلال الأمريكي، أكثر من تفاعلي مع “الفصول الأربعة” لشيطان الكمان الإيطالي “أنطونيو فيفالدي”، ولنا فيما قدّمه كورال تناغم بقيادة الفنانة غادة حرب بمناسبة العيد الخامس عشر لإذاعة “شام اف ام” في احتفالية “لأبناء هذه الأرض”، أمثولة، والتي قدّمت فيها توليفة رائعة من الفلكلور الغنائي والموسيقي لأطياف المجتمع السوري، فكانت خير دليل على تعلق الإنسان السوري بموسيقاه وتفاعله معها، وهي بالنسبة إليه أكثر أهميةً من سيمفونية “كوكب المشتري” أو “دون جيوفاني”، مثلاً لـ”موتسارت” من دون أن نقصد التقليل من شأن مؤلفات الموسيقار النمساوي العبقري الذي اشتغل على الموسيقا الكلاسيكية الرائجة في أوروبا في تلك الحقبة الزمنية أو غيره من موسيقيين عالميين.
ومن يستمع إلى مقطوعة “رقصة ستي” للفنان السوري عمر النقشبندي والتي مازالت حاضرة في الأفراح والمناسبات السعيدة لكلّ السوريين، تتراقص عليها القدود النسائية المياسة في كل أصقاع الجغرافيا السورية، لا بدّ أن يتمايل معها حنيناً وطرباً لأنها تعبّر عن هوية الإنسان السوري وأنماط سلوكه، وما يقدّمه طاهر مامللي من موسيقا تعبّر عن واقعنا وانفعالاتنا، وتحاكي طبيعتنا الإنسانية في الكثير من المناسبات، وشارات المسلسلات الدرامية يستحق التشجيع وما يختزنه الفلكلور السوري من أغانٍ وموسيقا هي تعبير عن حضارة عريقة وشعب محبّ للحياة.
صحيح أن الموسيقا لغة عالمية، لكن لا نستطيع تجاهل أهمية الهوية الموسيقية المحلية في بناء الشخصية الإنسانية والارتقاء بها لتكون حاملة لقيم حضارية مؤثرة أكثر منها متأثرة.