فاتح المدرس!
حسن حميد
كثرة هم الأدباء والكتّاب والفنانون الذين عرفتهم خلال مسيرتي الأدبية التي كانت سمتها الأبدى العطش المعرفي لكلّ ما هو جميل ونايف ومبتكر، وقد أفدت كثيراً من تلك المعرفة، فعرفت هموم الثقافة والإبداع وأسئلتهما الجوهرية، وعرفت أحلام المبدعين الجادين قاصدي المضايفة الحقّة، وتخليق ذرا جمالية جديدة، أو اشتقاق دروب لم تعرفها الخطا أو العيون الرائية من قبل، ومن هؤلاء الأدباء والكتّاب أديبة الشام الكبيرة ألفة الإدلبي التي كنت أزورها في بيتها المعلّق بغرة جبل قاسيون، فلا يصل إليه الواصل إلا عبر درج حجري ضيق عال، أما شرفاته الجنوبية فهي مطلّة على دمشق، بيوتاً، وشوارع، وأسواقاً، وغوطة.. إطلالة لا يشبع نظر المرء من جمالها المتغيّر من لون إلى لون، ومن حال إلى حال.
كان الطبيب عمر الإدلبي، زوج الأديبة ألفة الإدلبي، يجالسنا، ويستمع إلى حديثنا، ولكم كنت شغوفاً بأحاديث ألفة الأدلبي التي كانت تبدي أمامي الحياة الثقافية في دمشق الخمسينيات، وما بعد، صحفاً ومجلات، وأعلاماً، وصالونات أدبية، وتظاهرات ثقافية، كانت تحدثني عن الأدباء العرب والأجانب الذين استضافتهم هي في صالونها الأدبي، وما أكثرهم، وما أعلى قاماتهم، وعن غنى تلك اللقاءات التي كانت تمتد سهراً إلى آخر الليل، وكتابة وتقليب أفكار في الصحف لأيام.
هنا، سأتحدّث عما حدّثتني عنه، وهو لا يدور حول الأدب، وإنما يدور حول الفن التشكيلي حصراً، ويخصّ الفنان فاتح المدرّس، قالت لي: “إن الثقافة كلّ لا يتجزأ إلا من أجل الدراسة، والاعتراف بالحدود ما بين جنس أدبي وآخر، وما بين فن وآخر، وإن أجمل الصداقات وأوفاها وأنبلها، هي الصداقات بين الآداب والفنون، لأنّ فيها ما هو أكثر أهمية في الصداقة، ألا وهو الاعتراف بكينونة الآخر، وتقدير موهبته، واستبطان ما في شواغله الأدبية والفنية من جمال وحذق؛ ولهذا كانت صداقتنا مع الفنانين، على اختلاف حقولهم الفنية، قوية جداً، وكنا نسعى إلى أن تكون قوية دائماً، لأننا على إيمان مطلق بأنّ التأثير متبادل وحيّ ما بين الآداب والفنون، ومن هؤلاء الأصدقاء الفنانين، كان فاتح المدرس الذي لفت الانتباه، انتباه العارفين بالآداب والفنون، إلى لوحاته التشكيلية، فهي مدهشة وكاسرة لأفق التوقع، وقادرة، من اللحظة الأولى، على توليد البهرة الجمالية في نفس المتلقي- الرائي، أياً كانت درجة ثقافته، فهي لوحات تقول لمن يراها، إنها مختلفة في ألوانها، وكتلها، وخليط التقنيات التي اشتركت في تكوينها، وبهّارة في ألوانها التي يحار المرء ويدهش من طريقة مزج الألوان، واشتقاق ألوان جديدة للخريف، والجبال، والأعشاب، والثياب، والوجوه، والتراب أيضاً، لوحات فيها نيران، وأشجار، وأعشاب، ونساء، وبيوت، وجبال، والأهم هو الإحساس بأنها جميعها تتحدّث، وأنها جميعها تصغي أيضاً، أعني أنّ بعضها يصغي إلى بعضها الآخر، وأنّ كتل الألوان المتجاورة، على الرغم من تضادها، تتحاور أيضاً، وأنّ كل ما في اللوحة هو روح واحدة في العضوية، والتعبير، والإشعاع الضوئي، فالتراب في لوحة فاتح المدرّس يضيء أيضاً.
المهمّ أنّ صداقتنا، نحن في البيت، زوجي وأنا، وأولادي، كانت كبيرة مع فاتح المدرّس، وحضوره بيننا كان بهيجاً، فهو، وعلى الرغم من ريفيته، كان على درجة عالية من الذوق والرفعة، كان شخصية حضارية تامة، ينصت بإصغاء شديد، وحين يتحدّث، يتحدّث بالجميل والنافع، فلا تقع كلمة واحدة من كلامه على الأرض.
لي بنت، هي ليلى، تحبّ الفن التشكيلي، وكانت تقتني اللوحات، لوحات لكبار الفنانين في العالم، وتعدّها ثروة أكثر أهمية من المال والذهب، والكتب، وقد أعجبتها إحدى لوحات فاتح المدرّس وأرادت شراءها، لكن فاتح المدرّس، رفض، لا لأنها مقتناة من شخص آخر، أو متحف، أو دار ثقافة عالمية، وإنما لأنه رفض أن تشتري ليلى اللوحة، فهو يريد إهداءها لها، وكم كان فاتح المدرّس كريماً.
ليلى تعيش في إحدى البلاد الأوروبية، وهناك التأمين على الأشياء ظاهرة، فأرادت التّأمين على اللوحات المقتناة في بيتها، وكانت لفنانين عالميين، ومن بينهم، غوغان، وبيكاسو، وسلفادور دالي، فأرسلت شركة التأمين مندوبها الخبير إلى بيت ليلى، وقالت له أريد التأمين على هذه اللوحات، هذه وهذه وهذه..، وقفزت عن لوحة فاتح المدرّس، صوّر مندوب التأمين اللوحات وعاينها طويلاً، وأخذ سيرة شراء هذه اللوحات ووثائقها، وبينما هو يشرب القهوة مع ليلى، سألها لماذا قفزت عن تلك اللوحة، ولم تشركها في التأمين، فقالت له إنها لفنان صديق من بلادي، ولا خوف عليها؛ فقال الخبير الذي عاين اللوحات جيداً: يا سيدتي هذه اللوحة توازي في أهميتها هذه اللوحات التي طلبت التأمين عليها، إن لم تكن أهم منها، وعليك أن تحرصي وتخافي عليها أيضاً لأنها غالية فنياً؛ وقبل أن يخرج من بيتها، قال لها: ما اسم هذا الفنان، فقالت فاتح المدرّس، فقال: سأنقش اسمه في ذاكرتي لأنه فنان عالمي مدهش، وصاحب غنى مدهش أيضاً.
Hasanhamid55@yahoo.com