ثقافة جديدة في الأسواق.. باعة وتجار يفضلون رمي الخضار في الحاويات على بيعها بسعر منخفض!
ليندا تلي
رغم تدني القدرة الشرائية جراء ارتفاع أسعار الخضار والفواكه، إلا أن بعض الصور التي تناقلتها صفحات السوشيال ميديا مدعومة بتعليقات وتساؤلات تستهجن رؤية بقايا الخضار والفواكه ملقاة في الحاويات، في وقت لا يجدُ فيه الكثير من الفقراء ما يسدّون به رمقهم، ولن نبالغ بالقول إنّ نسبة لا بأس بها باتت تعتمد على النواشف باعتبار أسعار الخضار كاوية ولا يقدرون على شرائها، وإن استطاعوا في أحسن الأحوال فيتمّ بالعدد “الحبة”.
دون تبرير يُذكر
في جولة على بعض محلات الخضار والفواكه في أحد أحياء دمشق الشعبية، اختلفت الآراء وتباينت، ولكن الغريب أنّ النسبة الكبيرة منها أجمعت على أنّ تجار الخضراوات يفضّلون رمي بقايا موادهم كتالفٍ في الحاويات على أن يبيعوها بأسعار زهيدة دون تبرير يُذكر، على عكس قلّة منهم يفرزون الخضار والفواكه لنوعيات “أول وثانٍ وثالث” لإتاحة الفرصة أمام الجميع لشراء ما يناسبهم كلٌّ حسب قدرته الشرائية، في حين يصرّ بعض تجّار الأزمة على بيع الخضار “البايته” بذات سعر الممتازة “التازة” التي يشتريها كلّ صباح من سوق الهال، وهذا مدعاة تأفف للمستهلكين.
حفنة شكاوٍ
“أم محمد” تطحن توالف الخضار كوجبة للدجاجات في حديقة منزلها للحصول على بيض لإطعام أطفالها الصغار، بينما يحرص “قاسم. خ” على شراء الفواكه “المسوسة” أو التي تعرّضت لنقر العصافير باعتبارها تكون طازجة أكثر، وفق ما كانت تروي له جدّته، مفضلاً تناولها على نظيرتها ذات الشكل المغري، في حين يفضّل كثيرون مرور الباعة الجوّالين لشراء الخضار والفواكه باعتبارها أرخص من المحلات ولكونها مفرزة ومصنّفة بما يناسب العموم، على النقيض هناك أناس ورغم تغيّر العادات الشرائية وأنماط التسوّق يصرّون على مجاراة “البرستيج” بشرائهم النوع “الممتاز”، على عكس الشريحة الفقيرة التي زادت بعد سنين الحرب ولم تعد تأبه بالشكل ومجاراة المقتدرين، بل بات جلّ همّها شراء ما تأكله حتى لو كانت تحوي جزءاً تالفاً أو بايتة، فهي في نهاية المطاف للاستهلاك وليس للضيافة، وفق وصفهم.
“تنقايه بالحبة“
معلوم لدى الجميع أن الحقل يحوي بضاعة ممتازة (نوع أول وثانٍ)، إلا أنّ أغلبهم لا يقومون بفرزها بل يقومون بدمجها نوع أول مع الثاني، حتى أنه يضع بعض الحبّات التي لا تنفع بأسفل “السحارة” كُرمى بيعها، وهذا يكون من نصيب تاجر المفرّق الذي لا يقدر بدوره على إلزام الشاري بشرائها، حيث يقوم بالبيع “تنقايه” بالسعر الذي يريده البائع، وفق ما ذكر عضو لجنة تجار ومصدّري الخضار والفواكه أسامة قزيز، متمنياً على التجار فرز المنتجات قبل وضع الجديدة فوق القديمة، وفرز ما هو تالف ومنزوع وعرضه للمواطنين مجاناً تحت مسمّى “تالف” يباع مجاناً.
تجار الأزمة
ترجع جودة البضائع إلى منطقتها، فعلى سبيل المثال مادة البندورة التي تُعتبر الأهم يتمّ إنتاجها في المناطق الدافئة قبل شهر من نظيرتها في المناطق الباردة، أي إنتاجها بأغلبه نوع ثانٍ مهما حاولوا الاعتناء به، وهذا الأمر معلوم لدى تاجر المفرّق وذلك من نوعها ولونها مثل “الكوسا، البندورة، الباذنجان.. وغيرها”، حيث تسمّى في السوق عتيق وجديد، باعتبار المنتج الجديد يكون لونه زاهياً وطعمته مختلفة على عكس العتيق مثل الكوسا المبيّضة، يُضاف إلى ذلك أن تجّار نصف الجملة يشترون البضاعة ذات الجودة العالية بحكم معرفتهم بها عن طريق تاجر الجملة الوكيل عن الفلاح باعتبار الأخير لا يوجد عنده ما يسمّى “غش”، في حين هناك تجّار قليلون وُجدوا اليوم في السوق يشترون البضاعة المميزة ويعرضونها في محلاتهم ويفرزونها ويبيعون النوعية الممتازة لتجار المفرّق الذين يبيعونها بدورهم في الأسواق القوية ولأصحاب المطاعم والفنادق التي يناسبهم الحصول على عبوة مفروزة تحوي مادة ذات نوعية ممتازة مقابل فرق سعر.
إنتاج ضعيف
ولفت قزيز إلى أنّ التكلفة لدى المزارع هذا العام أعلى من العادي بالنسبة للمياه، فمثلاً في ريف دمشق وقريباً في دمشق جفّت وحين تجفّ المياه تُضرب المواسم ومنها البطاطا التي بقيت أسعارها عالية، وذلك لأنّ وزارة الزراعة تجلب البذار بكميات رمزية أولاً، والتاجر الذي كان يجلب البذار في حاويات على حسابه الخاص خاف على أمواله في حال غياب الضمانة وعدم قدرة المزارع على تسديد ثمن البذار الغالي في حال انضرب موسمه لأي سبب كان، وثالثاً جفاف المياه والمناخ حيث كان الإنتاج هذا العام ضعيفاً، فبعد أن كان الدونم ينتج ما يقارب الـ 4 أطنان بطاطا أنتج هذا العام 2 طن أي نصف الكمية، ما ولّد خوفاً لدى المزارع باحتمال إعادة الكرّة، وبالتالي خفّف كمية الزرع، وأصبح يعتمد على بذاره الخاص “من إنتاجه” حيث يحتفظ به في البراد لموسم الزراعة.
“الحبّة وخيتها“
وحول ما يُشاع عن ثقافة رمي بقايا الخضار والفواكه في الحاويات على تخفيض أسعارها، نفى قزيز وجود هذه الحالة لأسباب عدّة، أهمّها أنّها لا تناسب أي تاجر مهما كان، فمن كان لديه بضاعة فيها أجزاء تالفة يقوم بفرز الجزء التالف وبيع الصالح، وفي حال كان لديه بضاعة تلف يبيعها لعائلات مستورة بحاجة، ولكن إن حصل وشاهدنا بعضاً من كميات الخضار والفواكه في الحاويات فهي جراء اختيار المستهلكين لموادهم بالحبة ودسّها بأصابعهم أثناء تنقيتهم لموادهم “الحبة وخيتها”، فعلى سبيل المثال يمكن أن ترى طناً في سوق الهال تلف، فإذا وُجد في كيس الفليفلة المونسة الحمراء قرنان منزوعان بات حرياً بنا رمي الكيس بما فيه لأنّ الخضار إذا عُرض السيئ منها تؤذي.
ثقافة جديدة
لم ينفِ أمين سر جمعية حماية المستهلك عبد الرزاق حبزة وجود ثقافة جديدة امتهنها تجّار اليوم بتفضيلهم رمي المادّة في الحاوية على بيعها بسعر مخفّض، آسفاً لرؤية بضاعة تالفة أمام المحال أو بالحاويات، مرجعاً ذلك لأسباب عدّة، منها اتفاق التجار على التمسّك بسعر موحّد ثابت وهذا يُنتج هدراً كبيراً، وربما سوء التصنيف، حيث كان فيما مضى “السحّارة” كاملة تحوي النوعية نفسها، أمّا اليوم فتطفو النوعية الجيدة على السطح وفي الأسفل المنزوع، وهذا الحال يندرج على صالات السورية أيضاً، حيث تُباع البضاعة ذات النوعية الجيدة ويبقى المنزوع دون أي تخفيض يُذكر في سعره، لافتاً في سياق حديثه إلى أنّ هذه الثقافة تُلاحظ في الأماكن الراقية “أسواق الدرجة الأولى”، على عكس المناطق الشعبية، حيث يوجد زبائن للنوعية التالفة نوعاً ما، أي هناك من يشتريها تحت مسمّى “بيعات” بدون وزن.
مبادرة جديدة
وعن تخصيص صالات السورية ركناً خاصاً لوضع بقايا الفرز من خضار وفواكه وحالات الإقبال الشديد عليها، قال حبزة: هذا الموضوع ليس رسمياً بل هناك بعض مستثمري الصالات يقومون بوضع بعض الأنواع جانب الصالة أو أمامها بسعر مخفّض وأحياناً مجاني، وهي مبادرة جيدة ونؤيدها ونؤيد تحديد الأصناف، لأنّ المستهلك حين يقوم باختيار وانتقاء ما يشتريه بالحبة، فحكماً سيبقى النوع الرديء الذي من المفترض أن يُباع بسعر أخفض من غيره، ولكن التجار –للأسف- لا يتداركون الموضوع بل يبيعونه بالسعر نفسه.
“بيعات“
وأثناء قيامهم بجولات تفقدية، والكلام لـ حبزة، يُطلب منهم تصنيف المواد لديهم وكلّ صنف بسعر معين، ما يتيح إمكانية شراء المواد من كلّ المستويات، ورغم هذا تبقى نسبة الهدر قليلة وضمن الحدود الدنيا، لأنّ معظم المواطنين ذوو دخل محدود وهم مضطرون لشراء النوع الذي يسمّى “بيعات”، منوهاً بأنّ أغلب الهدر نلمسه في المطاعم، مشيراً هنا إلى مبادرة جيدة عبر تواصلهم مع جمعيات خيرية، حيث يقومون بأخذ الطعام المتبقي من المطاعم بعد ترتيبه وتوضيبه وتغليفه بتوزيعه على الفقراء والمحتاجين كوجبات.
مفارقة بسيطة
إتلاف المواد ليس حكراً على المحلات، بل الحال ينسحب على المنازل في ظلّ عدم وجود تبريد وانقطاع التيار الكهربائي، وفق ما بيّن حبزة، حيث يكون مصير كثير من الخضار والفواكه الرمي في الحاويات بدلاً من الاستفادة من الجزء السليم ونزع التالف، مستعرضاً مفارقة بين ما مضى من جهة حرص الأهالي على عدم إتلاف أي منتج حتى لو انتزع، فهم يقومون باجتزاء الجزء المنزوع واستهلاك السليم، في حين غابت تلك الثقافة عن الجيل الحالي الذي انتقل من حالة الرفاهية إلى القلّة وعدم قدرته على التأقلم إلى اليوم مع الواقع الحالي، ناصحاً بعدم إتلاف أي منتج باعتباره مدفوع الثمن وضرورة التأقلم مع الوضع الحالي.