سأسير.. فيما يتوقّف الآخَرون
وجيه حسن
هذه الكلمات الواردة في العنوان، ليست من إبداعات عقلي، ولا من بنات أفكاري، ولا من إفرازات قلمي النّاشف، إنّما هي للأمانة العلميّة والأدبيّة والخلقيّة، للروائي الكولومبي الشّهير غابرييل غارسيا ماركيز، الذي يحثّنا دائماً على الاستمرار في عمليّة الإبداع من دون توقّف.
وبهذا الصّدد، نقرأ ما كتبه الفيلسوف والكاتب الفرنسي، جان بول سارتر، الذي قال يوماً عبارته المُعمّقة: “إنّنا جميعاً نتواطأ معاً، أو كلّ بمفرده، كيما نستمتعَ بقتل الوقت، وإلقاء جثّته هناك، على قارِعَةِ المَلَل”..
لعمري، إنّه كلام كبير بليغ، صادر عن كاتبٍ عظيم، باسمه المدوّي، على امتداد جغرافيا هذا العالم المُتراحِب..
السؤال: هل ينسحب كلام الفيلسوف سارتر على شريحة معيّنة، أو على شرائح اجتماعيّة مُتكثّرة شتّى على بلدٍ بعينه أو على دولةٍ بعينها؟ التّعميم بكلّ الأحوال والمقاييس خطأ فادح، لأنه لا يؤدّي إلى نتيجةٍ دقيقة، أو إلى فضاءٍ رحيب.
السؤال الأقرب: هل كلام سارتر ينطبق علينا نحن العرب، دون سوانا من باقي خلْقه، أم أنه أراد بعبارته المعمّقة شعوباً وأمماً أخرى، تعيش فوق هذا الكوكب الأرضي، الذي نعيش كَسِوانا فوقه؟
سؤال مُوَالٍ: هل منّا مَنْ سأل نفسه يوماً، بموضوعيّة وتجرّد ومن دون مُخاتلة: “كيف أقضي سحابة يومي، المُكوّن من أربعٍ وعشرين ساعة”؟!
أسئلة مُعاضِدَة: هل نمضي شطراً ثميناً من أوقاتنا، بقراءة كتابٍ مفيدٍ؟ بإيجاد عملٍ إبداعيٍّ ما؟ ألم يَعِ أحدنا فحوى قول الشاعر المتنبّي، منذ أكثر من ألف عام: “… وخيرُ جليسٍ في الزّمانِ كتابُ”؟
أم أنّ مفرزات العولمة، وتبعاتها وإشكاليّاتها، أضحت سيّدة الموقف، المسيطرة على العقول والأبدان والنّفوس! وهي التي تستحوذ اليوم على أفئدة الشباب من الجنسين، وعلى فئة الأطفال أيضاً، وكبار السنّ، من ذكورٍ وإناث.
ويفجؤُنا سؤالان آخران مُفادُهما: هل حقاً، أنّ “التلفاز”، هذا الجهاز الخَطِر، هو الذي سلب– ويسلب – عقول الناس وأفئدتهم، كباراً وصغاراً؟ أم أنَّ “الشبكة العنكبوتيّة” العملاقة: “الكمبيوتر” بشكل عام، و”الإنترنت”، بشكل خاصّ، هي التي غيّرت شكل الكون، ونظامه، بمدّة زمنية مُتناهية في الصِّغر؟.
نقول هنا بقوّة: إنّ تمثالاً أسطورياً، قد بُعِثت فيه الرّوح، استطاعَ أنْ يحقق تواصلاً هائلاً غير مسبوق، بين أبناء البشرية طُرّاً، تنشأ من خلاله حوارات شتّى، بين أبناء الطبقات والدّيانات والآراء والفلسفات والثقافات المختلفة، كما استطاع، أنْ يقطفَ لنا أجمل “زهور المعرفة والعلم والتقدّم”!
وعلينا ألّا ننسى كذلك، أنّه يحمل بيده سيفاً ماضياً مُسلطاً، يستطيع بوساطته، أنْ يقدّم لنا “زهرة خَرابٍ معدنيّة”، تسلب من الإنسان روحَه، التي هي منبع تميُّزه، واختلافه، وقيمته الحقيقيّة بالحياة! وينبغي ألّا يغيب عنْ أذهاننا أبداً، أنّ قدوم “الهواتف الذكيّة”، و”وسائل التواصل الاجتماعي”، قد أشعَلَ فتيل وباءٍ مُتَخَفٍّ، من الابتزاز، والفضح على “الانترنت”.. وأنّ هذا “الأخير”، أكثر إغراءً بالنسبة إلى الأبناء والبنات المراهقين، من جهاز “التلفاز” الملوّن نفسه، وسريعاً ما تحوّلَ “الانترنت” لأداةٍ خَطِرَةٍ لا مثيل لها، بلْ تحوّلت إلى صديق قريب، وإلى مَضيَعَةٍ خَطِرَةٍ للوقت!
ويتفكّه أحدهم مُتلمّظاً: “الكتاب الورقيّ فقدَ تأثيره، خبَا وهجُه، بهذا الزّمن القاهر المُعَوْلَم”…
وكردٍّ على هذا المُتفكّه السّاخر نقول: هل حقّاً، احتلّ الكتاب مكاناً ضئيلاً على هامش ثورة الاتصالات الحديثة، التي قبضت على خنّاق القول والكلمة والحدث والخبر والمعلومة، وراحت هاتِهِ الثورة التكنولوجيّة بقوّة، تضخّ العالمَ بِمبيداتها القاتلة لحيويّة الشعوب والأمم وحَيَواتِها، وكان أكثرها هشاشة شعوبنا العربية، التي وقعت قسْراً عنها بين نِيْرِ العنف الثقافي، والعنف الغرائزي، لكنْ يا تُرى هل منْ مهرب؟
في الجواب، منْ أسف، فإنّنا تركنا “ثورة المنهج، وطريق العقل”، إلى “ثورة الاستهلاك”، وأصبحنا أمّة تستهلكُ الحضارة الغربيّة بما لها، وما عليها، أمّة يلفّها ستارٌ كثيفٌ منْ نزوات استهلاكيّة جنونيّة مُفرِطة بائِخة، غابت معها التنمية الحقيقية، وضاعت بظلّها أوقاتنا وأعمارُنا وأفكارنا وتطلّعاتنا سُدًى، كما غابت عنْ شريحة من الشّباب قِيَمُ التفكير، والقراءة، والإبداع، والمعرفة، والمطالعة.
ختاماً، يقول الروائي الكولومبي الشّهير: “غابرييل غارسيا ماركيز”:
“سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مُدرِكاً أنَّ كلّ لحظة نومٍ هي خسارة لِستّين ثانيةً من النّور، ولسوف أسيرُ فيما يتوقّف الآخَرون، وسأصحو فيما النّاسُ نِيام”.