القلوب والحروب
غالية خوجة
لأن الكاتب يثق بكلماته الطيبات، وآثارها، ومستقبلها، تراهُ قلقاً على الآخرين قبل نفسه، تماماً، مثل قلقه على الوطن والسلام والأمان والمحبة، لكنها الحروب ترهق القلوب، وتقتل الأبرياء، فلا تفرّق بين طفل ورضيع وخديج وامرأة وشجرة، لأنها، ببساطة، حرب معادية وظالمة بلا قلب، لذلك، لا مكان للإنسانية فيها، وتجهل الطيبة وكلماتها، ولا تعرف سوى المزيد من التدمير والقتل والتخريب.
أيتها الحروب، آما آنَ لك أن تغادري الأرض إلى الجحيم؟.
لقد صمد المواطنون، ومنهم الكتّاب والمثقفون السوريون، مثل شهدائهم وقلاعهم وجرحاهم وجراحهم في سوريتنا الحبيبة، وكذا، يفعل الكتّاب العرب في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وبقية البلدان العربية المستهدفة تاريخاً وتراثاً وسلاماً وأماناً وحضارة ومستقبلاً، ورغم آلامهم، تراهم يزرعون التفاؤل بابتسامة حيّرت لوحة “الموناليزا” وفنّانها دافنشي، ويخفون في أعماقهم تلك الصرخة الشهيرة في لوحة “مونك”، ليس لأنهم خائفون على أنفسهم، بل لأنهم خائفون على مستقبل الإنسانية على هذه الأرض.
للأرض قلوب، أيضاً، لكن لا تشعر بها الحروب، بل تشعر بها القلوب الشفافة، النابضة بالخير رغم شقائها، المضاءة بالأرواح، الراكضة في درب بلا عودة، الحاملة للضوء، لتصل إلى المصابيح، فتشعلها رغماً عن العتمة، وتحلق مع القلوب الأخرى حول الضوء، لكنها الحرب، تقصف الأضواء والأشعة والجراح والقلوب والأرواح، فتعود الظلمة إلى العصور، وتنتشر الدماء مع الشظايا، فتركض ذرات التراب مع الأعشاب المحترقة إلى الأشلاء تحضنها كما القلب في الجوف، وتندفن معها، لعلها تنمو جذوعاً تتجذر مثل الكلمات الطيبات.
هناك، تتمسّك الأشلاء بالجذور لتنبت قلوباً في قلب الأرض، وكلماتٍ في قلوب الكتّاب، ونبضات خضراء في قلب اللغة، وتنتشر مع ابتسامتهم الواحدة المحيّرة، فتتفاءل أشلاء الأمّ التي احتضنت طفلتها قبل القذيفة، وتتفاءل بقايا حجارة البيوت، وتبتسم الأشجار الممزقة، وترتجف الغيوم من القذيفة اللاحقة، فيصرخ قلب الأرض.
أيتها الحروب، أما آنَ لك أن تكوني بنصْف قلب؟.
لأنه موقن بانتصار قلب الحق على ظلام الحرب، ابتسم الكاتب العربي ذو القلب، وترك لآلامه أن تصير كتابات تخرج من المدافن والقبور والرماد، تخرج من قبره الذي في قلبه، من قلبه الذي في قبره، لتحلق إلى الشمس، وتأتي بحزمة من أشعتها، وتغرسها في قلب الظلام، فتنتشر سلاماً في الحرب، بين الحرب والحرب، وتعلّم الحروب أن لا تأتي إلاّ وفي جوفها قلب يشعر بآلام الناس والأرض والسماء.
أيتها الحروب، آما آنَ لك أن تكوني بربع قلب؟.
ثمّة نشيج تسمعه الجبال والبراري، البحار والصحاري، نشيج عميق من باطن كلّ شيء، نشيج بلون الكلمات المعمّرات، يذرف المعاني، ويرشد الدلالات إلى السفينة، فتلحقه أشجار الزيتون لتعطيه المزيد من الأغصان دائمة الخضرة، نشيج أبيض يتشكّل من نشيد تلك القلوب، نشيج بجناحين أبيضين وقلب أرجواني وعينين خضراوين، تعرفونه تماماً، يحمل في منقاره غصن زيتون، ويعود إلى سفينة نوح، تلك السفينة التي استوت مع القلوب، ورسمها بيكاسو لتكون رمزاً لقلب الإنسانية، لكنها، لماذا لم تعد تشبه نفسها؟!.
أيتها الحروب، حمامة السلام قلب كبير نازف أصبح بلا جناحين، فعاد إلى سفينة نوح ليستوي مع القلوب، وغادر كل اللوحات والملصقات والأمكنة والأزمنة، غادر هذه الأرض باحثاً عن جناحيه الأبيضين، فلنساعده على العودة إلى التحليق مع القلوب بعيداً عن الحروب.
أيها السلام العادل أما آنَ لك أن تنتصر للقلوب على الحروب؟.